إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):

الأخلاق والأفكار والتفاعلات الاجتماعية الرمزية

مركزيةُ الأخلاق في النظام الاجتماعي تُمثِّل منظومةً معرفية مُتكاملة ، تشتمل على المعاني القادرة على تكوين التَّخَيُّلات، وتحويلها إلى سُلوكيات يَوْمية مُعاشة . والمعاني لا تتجذَّر في المجتمع إلا بامتلاك مبدأ التَّوليد ، والمحافظة على استمراريته ، أي : تَوليد الأفكار وتَوليد السلوكيات . وهذه الحركة المُستمرة تمنع المجتمعَ من السقوطِ في الفراغ ، والغرقِ في تأويل الظواهر الثقافية الخاضعة للشُّعور الجَمْعي . وإذا تَمَّ توظيفُ الطاقة الفكرية الناتجة عن الحركة الاجتماعية المُستمرة ، في تكوين رؤية جديدة للعَالَم قائمة على تبادُل المنافع والخبرات ، بعيدًا عن الاستغلال والاضطهاد والصراع، فإنَّ قواعد تفسيرية جديدة ستنشأ في العلاقات الإنسانية ، وتكتشف التفاعلاتِ الاجتماعية الرمزية التي تعتمد على اللغة باعتبارها حاضنةً للأخلاق والمبادئ والقِيَم المُطْلَقَة والنِّسبية .

     وبما أن فلسفة الحياة اليومية مُستمدة من التواصل اللغوي والوَعْي بالمشاعر ، فإنَّ سلوكيات متعدِّدة ومعايير مُتنوِّعة وأفكارًا إبداعية ، سَتُساهم في بناء ظواهر إنسانية إيجابية عابرة للحسابات الضَّيقة والمصالح الشخصية والمنافع الفئوية والسياسات المُؤَدْلَجَة ، التي تَدفع باتجاه الصِّدام معَ الذات ، والصراع معَ الآخَر ، لتمزيقِ الروابط الاجتماعية ، وتحطيمِ مُستوياتِ الشعور الإنساني ، وبناءِ كِيانات السَّيطرة ومشاريع الهَيمنة على أنقاض الأُمَم والشعوب .

     وكُلُّ حضارة مَبنية على الحُطام هِيَ مُجرَّد وَهْم ، وكُل أيديولوجية تنال شرعيتها من شقاء الناس واضطهادهم وابتزازهم ، هِيَ مُجرَّد وسيلة تجارية لتحقيق أرباح مادية ، بلا فكر سليم ولا عِلْم صحيح ولا عَقْل واعٍ مُدرك لطبيعة الانتقالات الاجتماعية بين الأزمنة والأمكنة . وبناءُ الحضارة الذاتية لا يكون بزرع العقبات في طريق الآخرين ، أو دفعهم إلى الوقوع في الحُفَر ، وإنما يكون بتذليل العقبات في الطريق ، وتَعبيده من أجل المشي عليه والوصول إلى الهَدف . وكسرُ مجاديف الآخرين لا يزيد مِن سُرعة قاربك . وكُل إنسان يأخذ مكانَه تحت الشمس باجتهاده الشخصي ، ولا أحد يأخذ مكانَ أحد .

     والأنساقُ العميقة في التفاعلات الاجتماعية الرمزية تُجسِّد حقيقةَ الحياة الاجتماعية،على كافة المستويات: الفردية والجماعية ، المعنوية والمادية . ولا يُمكن إدراك هذه الأنساق والتحكُّم بها وتوظيفها لصالح معركة الوَعْي ضِد الوهم ، إلا بإدراك المعاني الكامنة في الشعور الداخلي للإنسان ، والتي تنعكس على سلوكه وطبيعة حياته ، وتُمثِّل مَاهِيَّةَ وُجوده وشرعيةَ صُموده في ظِل نظام اجتماعي مُسيَّس يَضغط على الظواهر الثقافية ، ويُحاول امتطاءها لتغييب العقول، وحَقْنها بالمُسلَّمات الجاهزة، وحَصْرها في القوالب المُعَدَّة مُسْبَقًا ، وإبعادها عن الأسئلة المصيرية التي لا تُجَامِل منظومةَ الفِعل الاجتماعي ( الجُزئي والكُلي ) ، ولا تُهَادِن سُلطةَ المعنى الرمزي ( اللغوي والشُّعوري ) .

     وكُلُّ نظام فكري يخاف من طرح الأسئلة، يشتمل على بِذرة انهياره في داخله ، وسَوْفَ يُدمِّر نَفْسَه بِنَفْسِه، ويَسقط معَ مرور الزمن ، بسبب عدم امتلاكه لعناصر المناعة الذاتية . وكما أن المبنى ينهار إذا تَمَّ تفريغه من الهواء ، كذلك العقل ينهار إذا تَمَّ تفريغه من الأفكار . والحَلُّ الوحيد لحماية العقل هو تكوين منظومة نقدية ذاتية ، تعمل على اكتشاف العيوب والثغرات في الإنسان ، من أجل التخلص مِنها . وهكذا ، يَدخل الإنسانُ في حركة تصحيحية ذاتية ، يَفْرِضها على كِيانه بمحض إرادته ، لتحقيق المنافع ، والتصالح مَعَ نَفْسِه ، وتقليل نقاط ضعفه ، ولا ينتظر أحدًا كي يَفْرِضها عليه . ونُقْطَة القُوَّة الرئيسية في حياة الإنسان هي معرفة أخطائه ، والاعتراف بها ، والعمل لتصحيحها بلا تبرير ولا هُروب مِن تحمُّل المسؤولية . وإذا هَرَبَ الإنسانُ مِن الدَّواء المُر بسبب طَعْمه ، فقد حَكَمَ على نَفْسِه بالهلاك ، وحَفَرَ قَبره بيدَيْه .