د. عبد الإله بلقزيز يكتب:

السبيل التعاوني – الاندماجي

تدلّنا تجارب السياسة على درس نفيس من دروسنا الكثيرة: تنجح السياسة كلما تقدمت في تحقيق المصالح وتعظيمها، وتخفق، أو تتضاءل شرعيتها كلما ذهلت عن هذا المقصد، أو طلبت غيره من الأهداف، وإن كانت أعلى في القيمة والمكانة. لم تقم الدولة الحديثة إلا على مبدأ المصلحة العامة التي لا سبيل إلى تحقيقها إلا بنظام سياسي وقانوني متوافق عليه. ولم تنجح دولة في إنجاز وحدتها القومية إلا من طريق إقناع مكوناتها بالفائدة المادية المتولدة من عملية التوحيد. وها هي دول كبرى من العالم، اليوم، تتخطى حتى حدودها القومية كي تدخل في علاقة شراكة إقليمية مع شركاء آخرين قضت بها المصلحة المشتركة بينها، والرغبة في تنميتها، وتعظيمها جماعياً.

والمصلحة، اليوم، ميدان محدّد تتحقق فيه وتتجسد، هو الميدان المادي أو قل، ميدان العلاقات المادية: الاقتصاد والتجارة والتبادل، والاستثمار، وانتقال رؤوس الأموال والخبرات، والسوق المشتركة، والصناعة والزراعة والخدمات..إلخ. هذه جميعها ميدان فسيح لجلب المصالح، لأن العمل فيها تعاونياً يجيب عن حاجات مادية موضوعية تقع في سلم الأولوية، بل تشكل أساساً وقاعدة لها. وهذه جميعها قابلة لأن تكون موضوع تعاون واتفاق مشترك من دون أن يفقد الشركاء، في شراكاتهم هذه، سيادتهم وقرارهم المستقل، وأنظمتهم القانونية ومؤسساتهم العليا الوطنية، أو حتى من دون أن ينال منها بعض النيل.

وإذا كان من مثال ناجح لهذا النوع من التعاون الأفقي بين الدول في منظومات شراكة إقليمية، فهو مثال منظومة دول «الاتحاد الأوروبي»: هذه التي أحرزت نجاحاً ملحوظاً في تكريس نفسها كقطب اقتصادي قوي في عالم اليوم. صحيح أن الاتحاد هذا لم ينشأ فجأة، فيخرج من عدم، وإنما هو أتى يتوّج مسلسلاً متصلاً من الخطوات والمكتسبات المتراكمة؛ منذ بدأت دول منه (ألمانيا، فرنسا) بدايتها المتواضعة (مشروع الصلب والحديد)، في النصف الثاني من الخمسينات، وصولاً إلى لحظته الراهنة، مروراً بتجربة «السوق الأوروبية المشتركة»، و«الجماعة الأوروبية». ولكن من الصحيح، أيضاً، أن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة؛ والعبرة في أي مشروع في الإرادة والتصميم والعزم، والسعي الصادق في البناء والإنجاز بروحية من العقلانية والمؤسسية والتضامن الفعال بين الشركاء. وهذه هي القيم التي أنجبت تجربة «الاتحاد الأوروبي» ووطّدتها.

صنع مبدأ المصلحة، إذاً، تجربة من التعاون والشراكة فريدة، إلى الحد الذي باتت فيه مرجعية في باب وحدة ابتنيت على عوامل الاقتصاد والتجارة والسوق والمصالح المشتركة. وما أغناني عن القول إن هذه التجربة الوحدوية لم تأخذ من دول الاتحاد، بل أعطتها مجتمعة، ومنفردة. ويكفي أنه ما من دولة خسرت سيادتها في هذا المشروع، بل كسبت منه ما تعزز به نسيجها الوطني. نعم، كاد «الاتحاد الأوروبي»، قبل سنوات، أن ينعطف نحو وحدة سياسية ودستور موحد يتوج بهما مساره الاقتصادي التوحيدي. لكن المحاولة أخفقت إخفاقاً ذريعاً؛ ولكن: لا بسبب أن هناك «أمة أوروبية» موزعة بين دول وعاجزة عن توحيد نفسها – كما هي حال الأمة العربية اليوم– بل لأن الأمر في ذلك الإخفاق يعود إلى وجود أمم أوروبية تتمسك كل واحدة منها باستقلالها القومي.

 نحن، إذاً، إزاء نموذج توحيدي جديد مبناه على المصالح هو نموذج التوحيد الاقتصادي؛ وهو الذي تحقق من طريق الخيار التعاوني – الاندماجي. وغني عن البيان أن النجاح في هذا الخيار قد يفتح باباً أمام أشكال أخرى أرقى للوحدة (سياسية) في مرحلة ما من التقدم. وذلك، بالذات، ما أدركه الأوروبيون بعد الفشل في تصويت مبكر على دستور موحد كان يمكن إرجاؤه قليلاً.

ويمكن للمرء أن يلحظ، من وجه آخر، الآثار الإيجابية الهائلة التي تتولد من هذا السبيل التعاوني – الاندماجي على الصعيد السياسي، أو قلْ على صعيد سياسات القوى الشريكة في هذا المشروع التعاوني الإقليمي. أول ما يلحظ الدارس أن الدول الشريكة في المشروع (دول «الاتحاد الأوروبي» في حالتنا) دخلت تجربة الشراكة والاندماج – أول ما دخلتها – وهي دول ذات سياسات خارجية وطنية مستقلة لم تكن تطلب منها الشراكة أن تتنازل عن استقلاليتها، لأنها شراكة مبنية على المصالح المادية (الاقتصادية والتجارية في المقام الأول)، وعلى مبدأ سيادة الدول واستقلالها السياسي. ولكن تجربة الشراكة الوحدوية في الاقتصاد سرعان ما أنضجت شروط شراكة وحدوية في السياسة – بقوة تأثيرات المصالح وتعظيمها – فباتت لأوروبا سياسة واحدة جامعة، ولساناً سياسياً واحداً ناطقاً باسم مصالحها الجمعية. وهذه من غير شك، خطوة أولى نحو الاندماج السياسي الإقليمي.