عبدالله السناوي يكتب:
بين الثورة والحراك.. التجربة الجزائرية
لم يكن أحد يعرف اسم قائد الثورة، التي توشك أن تعلن في الجزائر وتصنع مصيرها بدماء أبنائها. «دم الثوار تعرفه فرنسا.. ونعرف أنه نور وحق.. فصحت نحن مختلفون داراً.. ولكن كلنا في الهم شرق».
كانت تلك مقدمة غنائية بصوت محمد عبدالوهاب من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي لأول خطاب يلقيه «أحمد بن بيللا» عبر أثير «صوت العرب» من القاهرة في ال 2 من يوليو / تموز 1954 قبل شهور قليلة من الرصاصة الأولى.
في حوارات القاهرة أبلغ بن بيللا السلطات المصرية أن الرصاصة الأولى سوف تطلق في الساعة الواحدة من صباح ال ٣٠ من أكتوبر / تشرين الأول ١٩٥٤.
بدأت «صوت العرب» استعدادها لهذا اليوم التاريخي بتكتم بالغ طلبه وألح عليه «جمال عبد الناصر» على ما جاء في مذكرات خطية لمؤسسها «أحمد سعيد» لم يتسنَّ أن تنشر حتى الآن.
كانت توجيهات عبد الناصر إلى «فتحي الديب»، الذي كان يتولى من موقعه في رئاسة الجمهورية متابعة الملف الجزائري بأدق تفاصيله: «عندما يثبت تنظيم الكفاح المسلح ومن يومه الأول قدرته على العمل الثوري الشامل، فإن مصر سوف تلقي بثقلها كاملاً، عارفة بمسؤوليتها ومتقبلة لتضحياتها».
عندما أزف الوقت المحدد مساء السبت ال ٣٠ من أكتوبر أعلنت حالة الطوارئ في «صوت العرب»، وألغيت الانصرافات الليلية المعتادة بعد انتهاء الإرسال. لإخفاء السبب الحقيقي جرى التنويه أن هناك معلومات عن حشود عسكرية فرنسية تتحرك من الجزائر وتونس لإجهاض ثورة الشعب المغربي.
شاءت الظروف أن يكون متواجداً في الإذاعة بذات الوقت زعيم حزب الاستقلال المغربي «علال الفاسي»، بما أضفى صدقية كاملة على التنويه. وجاء صباح الأحد، وحل نصف النهار دون أن تكون هناك أي أخبار من الجزائر.. جرت اتصالات ومحادثات وتساؤلات: ما الذي حدث؟ كان ذلك مربكاً ومقلقاً في الوقت نفسه.
القلق طال عبد الناصر، الذي كان يراهن على ثورة الجزائر في تغيير معادلات المنطقة. خامره شيء من الشك في جدية الاستعداد، أو ربما أن التفاؤل كان أكثر من اللازم.
نحن مجبرون»، كانت تلك أول إشارة تصل من بن بيللا مكتوبة بالفرنسية.
قال لي فتحي الديب أخوك الكبير قلق، وبالغ القلق، وسوف أتصل به حالاً لأطمئنه أن عملية أخته الحاجة اليوم بإذن الله»، على ما روى أحمد سعيد.
لأسباب ميدانية تأجلت العمليات المسلحة، التي شملت أنحاء واسعة من الجزائر، إلى الأول من نوفمبر. في ذلك اليوم من عام ١٩٥٤، قبل 65 سنة بالضبط، بدأت تتوالى الأخبار من وكالة الأنباء الفرنسية عن «محاولات تخريب، تقدر خسائرها بآلاف الفرنكات».
اندلعت الشرارة الأولى للكفاح الجزائري، الذي اعتقد الجميع أنه أمر مستحيل، ليستمر أكثر من سبع سنوات، ناضل خلالها الجزائريون بقوة وجدية ورجولة أكسبتهم احترام الرأي العام العربي والدولي على السواء.
عندما علم عبد الناصر أن دوي الانفجارات أرعب قوات الاحتلال الفرنسي تأكد أن الجزائر قد استعادت استقلالها، وأكدت هويتها العربية، وأن الباقي تفاصيل.
كان لشحنات السلاح المصرية، التي هُرّبت إلى جبال الجزائر عبر البحار أو الحدود الليبية، وتدريب المقاتلين عليها، دور محوري في حسم حرب التحرير.
صوت العرب من القاهرة.. أيها الأخوة في كل مكان.. نزف إليكم بدء ثورة تحرير واستقلال الجزائر.
إليكم بيان جبهة التحرير الوطني.. اللجنة الثورية للوحدة والعمل
وتم توزيعه اليوم في جميع أنحاء التراب الجزائري».
هناك باليقين أخطاء فادحة ارتكبت في التجارب التي تعاقبت على مدى ال 65 سنة الأخيرة كلها تستحق المراجعة في سياق ظروفها وتحدياتها، غير أن فعل الثورة نفسه يدعو إلى فخر كل جزائري وعربي، وإنكاره جهل بالتاريخ ومواطن القوة فيه، ويسحب على المفتوح من أي أمل في التحول إلى دولة حديثة.