حميد طولست يكتب:
ليالي رمضان في فاس الجديد قبل كورونا
وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا" النبأ فإن الليل يبقى جميلاً ورائعاً ومؤنساً وأخاذاً عند الشعراء والعشاق، وسائر الناس، سواء الذين يقتلونه في النوم والأحلام الجميلة التي تتوالد أثناء تمدد الجسم واسترخائه خلال لحظاته ، أو الذين يحونه بالسهر والتسامر أو الذكر، ويطبقون قول الشاعر: "يا ليل طل أو لا تطل لابد لي أن أسهرك"، واللذان هما في ذلك سيان حسب مقولة الخيام ، والتي غنَّتها أم كلثوم:" فما أطال النوم عمراً ولا قصَّر في الأعمار طول السهر"، المخالفة للعلم الذي يؤكد أن النوم يطيل العمر والسهر يُقصره ، أنه كثيرا ما يكون السهر الليالي موحشا مؤلما مع المرض والعلة، كما صور ذلك الشاعر حال معاناة المحموم مع الحمى التي لا تنشط إلا ليلا:
"وزائرتي كأن بها حياء فليس تزوز إلا في الظلام".
لكنها التقاليد والعادات ، والمغاربة أكثر الناس حفاظا وتمسكا بهما ، ويظهر ذلك جليا خلال شهر رمضان ، وخاصة في لياليه المؤنسة والرائعة والتي ٍتتعدد خلالها طقوس وسلوكيات السهر، وتختلف فيه التقاليد والأعراف عن ليالي الشهور الأخرى، وتنصهر جميعها لتفرز نكهة خاصة تميز المغرب عن غيره من بقية البلدان العربية والإسلامية، وتمنحه فرادة وخصوصية تؤشر على عراقته وتجذره الحضاري والتاريخي في كل مجالات حياة الناس ومعيشهم، فهذه أماكن العبادة التي تصبح لها خلال هذه الليالي مكانة خاصة ، حيث تزداد فضاءاتها جمالاً وقداسة لاستقبال شهر الغفران بما يليق به من تبجيل وتعظيم. وتلك الأسواق والشوارع تختنق بالسلع المتنوعة وتضيق بالمارة والمتسوقين، وهذه البيوت والمنتديات يتسارع أصحابها إلى الاجتماع والالتقاء وتبادل الزيارات للسمر والترفيه وتبادل أطراف الحديث ،والتي تبتدئ حين تزوال كل آثار ضياء الشمس و تنمحي من الكون ويعم الليل البهيم بظلامه الدامس، الذي تلطف من غلوائه أعمدة الإنارة المزروعة في كل الشوارع والميادين و الدروب، وتبدد عتمته المنتشرة في الشوارع التي يهزم سكونها العدد الغفير من الناس والسيارات التي تجوب المدينة في أجواء ليلية ٍمنشرحة عامرة بالحركة، مكتظة بنشاطات اعتاد النهار الإنفراد بها والتي لم يدرك، أو لم يتمكن المرء من إنجازها خلال نهارات رمضان، إلا مع إطلالة ليل جميل ومثير من لياليه الفضيلة التي تتحول عند المغاربة إلى نهارات تتسع لكل ما هو أثير وجميل وأنيس مما يحبه الإنسان ويهواه ويلهو به عن كل ما يشعره بالضيق والانزعاج وعدم الراحة.
حقا إن ليالي الرمضانية، لليال مؤنسة وساحرة يعجز المرء عن مقاومة إغواء سهرها. فبعد أداء صلاة العشاء و التراويح تمتلئ الحياة الليلية بالحركة والنشاط. فالناس يتسامرون لإشباع النفس بما حال العمل دون تحقيقه في النهار، أو شغلهم عنه الصوم وأبعدتهم عنه مشاغل التنسك والتعبد.
فيهربون إلى المقاهي ـ المتنافسة في استقطاب الزبناء بعرض الجرائد والمجلات التي يلتهمها المتعلمين، وفي إقامة الحفلات التي يقضى شطر من الليل الجميل في التمتع بها، على الكراسي الوثيرة المؤثثة لطيراسات وشوارع وأزقة المدينة، بعيداً عن الهم والروتين وما اعتاد عليه الكثير من الصائمين الذين لا يفضلون فنجان القهوة بعد الإفطار وصلاة التراويح إلا بتلك المقاهي العموميةٍ المنتشرة في كل المدينة حيث الهواء النقي العليل المنعش ، والشوارع في كامل زينتها بما يلهم الشعراء وأهل الطرب والعشاق، الذين يستمتعون بنكهة القهوة المعتقة اللذيذ مذاقها المحرضة على الثرثرة والانتباه واليقظة. وسواء كانت ثرثرة حول السياسة أو الدين أو الرياضة. فإني أفضل احتساء فنجان قهوتي الليلية في مقهى الناعورة بفاس الجديد حيث عبق التاريخ ومتعة الحديث إلى الأصدقاء الحومة القدامى المطرب لاسيما إذا كان موضوع الثرثرة كرويا بامتياز، الذي يضفي على فنجان القهوة طعما مميزا لا يوجد في مقهى آخر، وخاصة إذا كان موضوع النقاش يخص الــ"واف"waf فريق الحي الأول؛ فإن الإثارة تبلغ مداها بين رافض لهذا اللاعب ومؤيد لغيره وباحث عن زلة غيرهما، ومتربص بعثرات المدرب أو المسير، وبين مادح ومشيد بما كان ويكون وما سوف يكون، أويجب أن يكون. هذا ديدن شباب هذا الحي الشعبي وحتى شيوخه كلما طرح موضوع الواف، فريق الحي ، والأطرف في ذلك هو حين يطرح دور المجلس الجماعي للحي في الشأن الرياضي واهتماماتهم بمساره، فتتفاقم التهم وتقوم القيامة ضد مستشاريه الذين يعتبر –ظلما- اغلبهم أميين و جهلة، فيتبدعون المستملحات والنكت، للانتقاص من قيمتهم، وأدوارهم في الثقافة والرياضة بالحي لاسيما لعبة كرة القدم المعشوق الأول لغالبية الساكنة، وهكذا ومن غير مقدمات تجدهم يتحسرون على زمن الرئيس الفلاني والمستشار العلاني وما تحقق في زمانه للفريق من إنجازات، مبخسين حتى الأصوات التي حصل عليها غيرهم خلال الاستحقاقات التي يعتبرونها ملتبسة، رغم أن حقيقة الأمر هي عكس ذلك.
ومهما بلغت درجة جدل سمار الحي، واشتدت حرارته، فإنها لا تتجاوز حدود اللباقة المعهودة فيهم، ما يضفي على سهراتهم الرمضانية عذوبة وحميمية بأبهى وأروع صورها.