سناء مبارك تكتب:
«أمي».. محطات امرأة عظيمة لا تنسى
بمناسبة عيد ميلادها، تعالوا أحكي لكم قصة هذه الإنسانة التي تقف إلى جانبي في هذه الصورة، القديمة نسبيًا، كما وقوفها بجانبنا كل الحياة.
ولدتْ أمي حيث عاشتْ طوال حياتها، في ضاحية الممدارة الشرقية في عدن، لأب كبير في السن وأم شابة، كان جدي في البدء يريد أن يزوجها ابنه، خالي الأكبر، عندما ذهب لخطبتها ثم اختارها لنفسه.. في بيت شديد التواضع كبر خمسة أشقاء وثلاثة إخوة من الأب، هم مجموع أخوالي وخالاتي، توفي أبوهم وأصغرهم لا يزال رضيعًا، ثم توفيت جدتي بعده، وقيل أنها قضت وقتًا طويلًا خيالًا لطيفًا بلا تأثير بعد أن مرضت لسنوات، كان هذا في عهد الاستعمار البريطاني لعدن.
تتذكر أمي أيام طفولتها بالكثير من التعب الذي يرتسم فورًا على ملامحها طريًا كلما حكت لنا شذرات منها، الحوش الذي كان منزلهم، مبنى من الطين هو جادة جانبية لمزرعة ماشية وأبقار، والكراتين التي كانوا يفترشونها للنوم كانت هي الأسرّة التي يرقدون عليها، حياة غريرة، كانت أمي تبيع اللبن فجر كل يوم قبل أن تذهب للمدرسة، في الخامسة صباحًا تطرق الأبواب وفي السابعة تكون في الفصل. تحملت مسئولية الأصغر من إخوتها خاصة بعد أن تزوجت خالتي الأكبر في عمر الأربعة عشر، عندما تعلمتْ أمي القراءة والكتابة كانت تساعد خالي ورفاقه في كتابة المنشورات والخطط إبان الكفاح المسلح، ومن هنا ربما تكونت لديها القناعات أن المراحل التي تلحق النضال ما هي إلاّ مغانم للمارقين.
عاشتْ أمي زهو عدن بعد استقلالها، في الثانوية التي كانت تقطع لأجل الوصول إليها جُل مساحة عدن من شرقها لغربها، ثم أزهر شبابها عندما دفأ حضن المدينة، التحقت بجامعتها وكانت الوحيدة من نساء العائلة التي تدخل الجامعة في وقتها، في ذات البيت وعلى ضوء نفس الفوانيس، أنجزت دراستها الجامعية، مارست النشاط الحزبي حين تفتقت نعرات الاشتراكية وعلا نجم الرفاق، احتفظت أمي لفترة طويلة بكارت عضويتها في الحزب الاشتراكي وظلت البطاقة الحمراء واحدة من أثمن مقتنياتها، حتى بعد أن توقفت تمامًا عن الخوض في الشأن السياسي. لا يمكنني أن أنسى يوم أن دخلت ما تسمى "قوات الشرعية" عدن في ١٩٩٤ كيف هرعت أمي لتخبئة كل متعلقاتها وكتبها وأغراضها من فترة مثلت جزءًا ربما يكون الأجمل في حياتها، خوفًا من الداخلين بفتاوي القتل ضد "الشيوعيين".
أن تضطر لتدفن تاريخك لا يفرق عن ان يئدك أحدهم حيًا، عندما تجرب طعم الحسرة إذا ما حاولت يد غبية ان تمس حريتك في اقتناء قناعاتك.
عندما أغلقت أمي على تاريخها داخل الموقد، ولم يجد الداخلون لتفتيش بيوتنا شيئًا، ابتسمت أمي في وجوهنا ونحن نرتجف: الفرق بين الغباء والذكاء أن الأول لا حدود له.
بعد أن تخرجت أمي من الجامعة تعينتْ معيدة في كليتها، لكن قبلها وفي سنواتها الأخيرة في الجامعة كان القدر قد وضع في طريقها شابًا أسمرًا نحيلًا قادمًا بلهجته الحضرمية من قلب المكلا، لهجة لم تستطع تغييرها أربع لغات كان قد تعلمها وأتقنها، كان حبًا على طريقة الرفاق، حب الأستاذ المتقد بالحماس لتلميذة نجيبة أصبحت لاحقًا زميلته ثم شريكة حياته، كان حبًا مملوءًا بنبل الصادقين، ورسائل أشواق بين شابين قضيا الوقت متنقلين بين موسكو وعدن لأغراض أكاديمية، لم يكن ارتباط الاثنين سهلًا، وما قرأته من رسائل تركها والدي تذكارات تحكي اللوعة والسعي لحياة لائقة لعائلته، أوقعتني في حب أب لم أتعرف عليه قط.
في صباح الثامن عشر من أكتوبر، كانت الشابة ذات السابعة والعشرين تتلقى أسوأ أخبار حياتها، فقدت أمي زوجها في عز شبابهما، اندلق كأس الأمنيات الذي لم يشربا منه إلاّ قطرة، كنتُ حينها في عمر الشهرين، رضيعة في حضن المأساة، فكان هذا بحسب الرويات المتداولة هو أحد أهم أسباب تدليل أمي لي، فأنا مذ ذلك الوقت وحتى اليوم، "حبيبة أمها" وهو تعويض قبلته بكل بد.
كبرنا أنا وأختي في كنف امرأتين عظيمتين، أُمّان وعالم من الأنوثة الصلبة، بلا رجل ولا سند عشنا أربعة نساء نحفر صخر الحرمان ونصرخ في وجه المجتمع "نعم نستطيع"، أمي هنوة التي تخلت عن وظيفتها وعن الزواج لتعاون أختها في تدبير تركة حياة قيد البدء، وأمي نور الأرملة أم لطفلتين كبراهما تبلغ عامين، وبيت لم يكتمل العمل به، جدران عارية اختلط بها عرق الفقيد وطموحاته، ووصيّة، كان قد همس بها في أذن كلتيهما قبل سفره الذي لم يعد منه، كان وداعه يومها ثقيلًا، فقد عاد مرتين من منتصف الطريق ليودعنا كما تتذكر أمي، وكأن كلماته الأخيرة بينهما كانت على غير العادة وصايا مودّع.
عاشت هاتان الحبيبتان لأجلنا ولا زالتا، وبذلتا كمًا من التضحيات التي لا يمكن ردّها بأي حال، وهو أمر لا يمكن التعايش معه بسهولة، فالقدر الكبير من العطاء يقابله قدر أكبر من التوقعات التي لم نستطع عدل كفتها، ولن! مهما حاولنا.
صنعت لنا أماي حياة لم تعيشاها، وبيتًا من الأحلام، لم أر في حياتي نساء في قوتهما وجسارة تدبيرهما، وكل ما نحن عليه هو صنيعة من العدم الذي جعلته أمي بقوتها وتضحياتها كريمًا ولائقًا.
ذهبت أمي بعد أن كبرنا لتكمل طموحاتها، غادرت إلى بغداد بعد أن التحقنا بالثانوية، كانت أولى جرعات الفراق، الذي باغثنا لاحقًا دفقة واحدة، حصلتْ على الماجستير، ثم سعت بيدها وأنيابها لتحصل على ابتعاث لتكمل مشوار الدكتوراة في القاهرة، كانت أمي تناقش رسالتها وانا في سنتي الثالثة في الطب، كنا في ذلك الوقت، أنا واختي، قد نجحنا بدورنا في رسم الطريق للمستقبل، حصلنا على منح ولم يعد فعليًا ينقصنا شي يمكن لأمي تقديمه، ولكنها أصرت على مواصلة دراساتها في عمر متقدم، لأجل أن تكون مثالًا لنا، حصلتْ على الدكتوراة، وعادت لعدن، وعندما تفرقت طرقنا للمرة الأخيرة قررت أن تتقاعد بعد عمر من التدريس، لأننا ذهبنا بأحلامنا بعيدًا للدرجة التي لم تستطع ربما تحملها.
كل عام وأنت نوّارتي يا ماما، وكل شيء.