يوسف الديني يكتب:
الدبلوماسية السعودية والدرس السياسي
واحدة من أكثر أزمات التحليل السياسي الآن، انتشار الشائعات والتحليل الاستباقي والرغبوي بشكل غريب تحول إلى ظاهرة، كما أنه ينظر إلى السياسة (فن الممكن) على أنها قطعيات عقائدية أو مسلّمات اجتماعية وفكرية. في الأسابيع القليلة الماضية، يمكن رصد مئات المقالات والتحليلات والنقاشات حول الفاعليّة السعودية النشطة التي عكستها الأخبار والتحليلات عن تحرّك سعودي تفاوضي في شكل محادثات، والتي زاد زخمها حوار ولي العهد الذي تحدث فيه عن دبلوماسية الرياض العقلانية وأنها تقدم حسن النوايا مع الجميع ولا تقف عائقاً أمام حوار مسؤول مبني على ركائز المملكة منذ عهد المؤسس ومنها ترسيخ فضيلة الاستقرار والسيادة.
بعد الحوار، انهالت الأوراق وأوراق تقدير الموقف والمحتوى السياسي في مراكز الأبحاث وخزانات التفكير في قراءة التوجه السعودي نحو الحوار، لكن كثيراً منها كما هو المعتاد جاء بشكل رغبوي وانتقائي يعكس أزمة في الثقافة السياسية السائدة في مقاربتها لفهم السعودية، المفاجئة للجميع بمرونتها وقدرتها على كسر الجليد السياسي في المنطقة، لكن هذه التحليلات والمحتوى التضليلي تلقى توضيحاً سياسياً بلغة عالية المستوى تعكس خبرة وحنكة في التواصلية السياسية لدى وزارة الخارجية يحتاجها المشهد الإعلامي، وتمثلت بتصريحات د. أنور القرملي الخبير الأكاديمي العريق في العلوم السياسية والسفير فوق العادة الذي يعمل الآن مديراً لإدارة التخطيط في الخارجية، وقد التقيته عدة مرات سابقة، وفي كل مرة أدهشني بهذا المستوى العالي من الدمج بين الجانب الأكاديمي والخبرة العملية في ميدان السياسة ودهاليزها.
الدكتور القرملي عبّر بلغة سياسية دقيقة شارحة وتشريحية للمشهد اليوم، حيث أكد وصف التواصل السعودي مع طهران بـ«المحادثات»، ثم قام بتسبيبها على الطريقة القانونية بأنها تهدف إلى خفض التوتر في المنطقة، مستدركاً أنه «من السابق لأوانه الحكم على النتائج».
بإزاء هذه اللغة الوصفية بالغة الدقة كان حجر الرحى كما يقال في تصريحات الخارجية على لسان أحد خبرائها، هو التنويه بإحدى أهم ركائز وثوابت السياسة الخارجية السعودية منذ تأسيسها لمفهوم التواصل السياسي في الأوقات الحرجة، حيث أكد أن «الرياض تريد أن ترى أفعالاً يمكن التحقق منها»، بحسب عبارة د. القرملي التي نقلتها «رويترز» وتحمل اشتراطات في غاية الأهمية، فالحوار ليس مجانياً ومرهون بالأفعال التي يجب أن يعكسها الواقع، بحيث تصبح قابلة للتحقق.
في التصريح ذاته، أحال الخبير القرملي على لقاء ولي العهد، ليشدد على أن تصريحات الخارجية التي نقلها هي امتداد لتلك الشفافية التي بدت في لقاء ولي العهد السعودي، مؤكداً أنه شرح السعودية «بوضوح شديد».
الوضوح المشار إليه هو تأكيد ولي العهد السعودي على أن الأزمة مع إيران في المقام الأول هي أزمة سلوك سياسي، وبالتالي فإن الأفعال وحدها، وليس التصريحات أو محاولة استمالة السعودية دبلوماسياً في القنوات الغربية، يمكن أن تقود إلى تحريك للأزمة التي صنعتها طهران بسلوكها ومشروعها الذي يستهدف الاستقرار والسيادة.
الأكيد أن توضيح الخارجية حول اللغط حيال المحادثات الأولية جاء في وقت مهم جداً يؤكد استباقية الرؤية السعودية في تحريك المياه الراكدة لا سيما مع تمادي أذرع طهران، ومنها الحوثي، في تأزيم سلوك طهران ومحاولة فك الضغط عليها مع ارتباك القوى الدولية في مقاربة الملف النووي، الذي لا يحل أزمة السلوك ومشروع تقويض الاستقرار عبر تفعيل الأذرع وحروب الوكالة، ومن هنا، فإن عدم التمييز بين الثابت والمتحول في مقاربة الاستباقية السعودية يقود إلى كوارث على مستوى التحليل والممارسة، لا سيما في الأزمنة الموّارة بمعطيات وأحداث لها تأثيرها على طبيعة التوازنات الإقليمية، ولذلك يمكن القول إن مفتاح ما يقال عن أي حوارات مع إيران أو سوريا ولبنان... إلخ في المنطقة فإنه يندرج تحت سياسات «مملكة الأفعال» إذا أردنا تكثيف موقف الرياض من أي مباحثات ذات طابع إيجابي.
السياسة الاستباقية السعودية الجديدة، هي رسالة ذات مضمون أخلاقي في توقيت استثنائي تهدف إلى التأكيد على أنها أول من يدعم أي انفراجة تقود إلى السلام والنهوض بالمنطقة والتنافسية نحو المستقبل، لكن ذلك مرهون بأفعال وتغيير للسلوك، وهو مفارق تماماً للمقاربات الانتهازية من بعض الدول الغربية التي بدلاً من فض النزاعات وحل القضايا العربية العالقة والمصيرية على أساس عادل، تلجأ إلى منطق سياسي جديد وبراغماتي مبني على أسلوب الصفقات والتفاهمات وشرعنة التدخل السيادي للدول، بل والحرب بالوكالة والوقوف ضد إرادة الشعوب.
السياسة الخارجية السعودية لم تزعم أبداً أنها ضمير العالم كما تحاول دول بعينها فرض مقارباتها لأزمات المنطقة وتفشل في كل مرة، لذلك فالبُعد السياسي السعودي حاضر وبقوة إذا استعرضنا مقدار الضرر الذي حل بمصالح دول الاعتدال منذ لحظة الانهيارات التي دشنها ما سمّي الربيع العربي.
السياسة الاستباقية السعودية رسالة واضحة ضد محاولات تطويق وعزل دول الاعتدال في مقابل تقديم صفقات سياسية كبرى خارج دور مجلس الأمن، كما أنها تضع حداً لكل محاولات صياغة تصورات جيوسياسية للمنطقة تضمن إعادة استقرارها بأطراف تفاوضية منقوصة ينظر إليها عادة على أنها متعاونة ولا تستخدم مبدأ الممانعة، كما تفعل إيران لتحقيق أهدافها، وبالتالي فمن الصعب تصور أي تسوية لملف إيران النووي أو الأزمة السورية من دون ممانعة تفاوضية مماثلة.
الأكيد أن المشهد اليوم يعاني من أزمة تثقيف سياسي، لا سيما على مستوى الوسائل والغايات بسبب احتدام التحشيد الآيديولوجي الذي هو مضاد للمرونة السياسية القائمة على المصالح، وفي مبادئ القانون الدولي تأصيل مهم لمسألة تسوية النزاعات بالطرق السلمية جاء في الفصل السادس بشكل تفصيلي، فالعملية التفاوضية في عالم السياسة عملية ديناميكية متحركة تهدف إلى تحقيق ثوابت استراتيجية، ومنها الاستقرار والسيادة أو بحد أدنى تخفيف منسوب التوتر منعاً للفوضى، وهذا ما عكسته الرؤية السعودية التي وفقت الخارجية في التعبير عنها، حسماً للمحتوى التضليلي الذي تحرص بعض القوى التي تحاول استهداف السعودية بإعلام تضليلي بات يزكم الأنوف في منصات «السوشيال ميديا» التي باتت حاضنة لفوضى المحتوى وشعبويتها.