فهد سليمان الشقيران يكتب:
اتفاق {طالبان} والانسحاب الأميركي... «عودة القاعدة»
مع مرور الذكرى العاشرة لاغتيال أسامة بن لادن، أصدر تنظيم «القاعدة» بياناً شنّ فيه هجوماً عنيفاً على الولايات المتحدة وحلفائها. توعد بالمزيد من العمليات الضاربة. تتزامن ذكرى تصفية بن لادن مع مشاريع الانسحاب الأميركي التي بدأت أواخر العام الماضي في العراق، وتستمر مع استعداد أميركا للانسحاب من أفغانستان في سبتمبر (أيلول) من هذا العام.
المفارقة أن عملية الانسحاب احتاجت إلى مزيد من الدعم الأمني، فهو انسحاب غير آمن بل «مؤمَّن»، ومع جلبة الرحيل الأميركي يأمل العالم اكتمال الاتفاقيات الأفغانية كما في البيان السعودي الباكستاني المشترك، ولكن من الواضح أن الاتفاق ولد هشاً ولن يكون مانعاً أمام حرب أهلية محتملة، ولا عن استمرار طالبان بممارسة الديكتاتورية الأصولية، ولا عن فك ارتباطها بتنظيم «القاعدة». بمعنى آخر فإن المصالحة لها ظرفها النفعي المؤقت ولكنها ستذهب أدراج الرياح.
بعد تفجيرات «القاعدة» للسفارات الأميركية في نيروبي ودار السلام بتاريخ 7 أغسطس (آب) 1998 ذكر أسامة بن لادن أن التنظيم يحتاج إلى أرضٍ ينطلق منها، كانت مهمته إيجاد أرض آمنة يمكنها أن تكون القاعدة لعمليات التنظيم في العالم. أوجدت الصفقة مع طالبان النفوذ الكبير لـ«القاعدة».. طالبان هي الأرض و«القاعدة» هي الدولة. حتى اليوم يدرك الأميركيون أن قيادات من «القاعدة» تقوم بأعمال استشارية سياسية لطالبان، برغم وجود أطروحات نظرية توضح مستوى استفادة الجيل الجديد في طالبان من طريقة عمل جماعة الإخوان، ولكن هذا لن يفك الارتباط بشكل كامل بين «القاعدة» والحركة، بين الأرض والدولة.
إن من الخطورة بمكان التعويل على أي احتمال لتغير سلوك طالبان. وزير الخارجية الأميركي بلينكن صرح قبل شهرٍ من الآن بأن «الولايات المتحدة قادرة على صد أي هجوم محتمل ينطلق من الأراضي الأفغانية، رغم قرار الرئيس جو بايدن بسحب كلّ القوات الأميركية بحلول 11 سبتمبر».
وينقل موقع DW تصريحات بلينكن لمحطة «إيه بي سي» الأميركية ومما قاله: «ستكون لدينا الوسائل لمعرفة احتمالات تجدد ظهور التهديد الإرهابي من أفغانستان، سنتمكن من رؤيته في الحين واتخاذ الإجراءات اللازمة.. سنضمن أن نكون محميين من التجدد المحتمل لنشاط (القاعدة) في أفغانستان».
إن التعويل على دور لطالبان في منع تجدد نشاط تنظيم «القاعدة» لهو ضرب من الجنون، ويذكرني بتفاؤل ندم عليه صاحبه، ولكنه يعود إلى الحلم ذاته بطريقة عمله كمبعوث أميركي لأفغانستان، وأعني به تفاؤل زلماي خليل زاده لنعد لبعض حديثه في مذكراته المهمة: «السفير من كابل إلى البيت الأبيض رحلتي عبر عالم مضطرب» وألخص أبرز ما رواه:
* «أنا - مثل كثيرين - كنت متفائلاً بشأن طالبان. إذ كنت قد رأيت الضرر الفظيع الذي سببته الفوضى والعنف الذي تمت ممارسته على نطاق واسع بالشعب الأفغاني. فقد كان أمراء الحرب يسيئون التعامل مع المجتمعات المحلية، ويخطفون الأطفال، وكانت الميليشيات تقيم نقاط تفتيش على الطرقات، وتبتز المال من المسافرين حتى لو كانوا شديدي الفقر، كما كان الاقتصاد منهاراً. كان عالماً هوبزياً (نسبة للفيلسوف السياسي البريطاني توماس هوبز)».
* «كانت طالبان تقول كل الأشياء الصحيحة. فقد وعدتْ بجلب النظام، وعقْد اجتماع كبير (لويا جيرغا)، وإعادة الملك السابق للإشراف على الانتقال السياسي. حينها، رأى كرزاي - وأفغان آخرون أيضاً - في طالبان وسيلة للتخلص من الكارثة التي كانت تبتلع البلد. بل إن عائلة جيلاني - التي كان زعيمها يقود أحد فصائل المقاومة المعتدلة خلال الاحتلال السوفياتي - ذهبت بعيداً، وذلك بالمساعدة على شراء بزات وحقائب للملك استعداداً لعودته».
* «في تلك المرحلة، كانت طالبان حركة غامضة وفي حالة تغيُّر مستمر. ولكن، مع ذلك، كان ينبغي أن أكون أكثر ارتياباً. لقد رأيت بشكل مباشر ما حدث في إيران عندما استولى الخميني على السلطة، وفرض نظاماً دينياً استبدادياً. وهذا ما حدث في أفغانستان؛ حيث فتحت فوضى الحرب الأهلية وممارسات أمراء الحرب الباب لنظام قمعي قادر على تحقيق النظام. كان ينبغي عليّ أن أكون مدركاً لاحتمال أن تستغل حركة طالبان الوضع لفرض نظام ديني قاسٍ».
* «أدّت الحرب المطوَلة وعدم الاستقرار إلى انتصار حركة طالبان التي جعل نظامُها من أفغانستان مغناطيساً للإسلاميين العنيفين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وهذه الإخفاقات تسببت في تكلفة هائلة، وأفضتْ إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر».
هنا المفارقة، أن كاتب هذا النجم المرير هو نفسه من يقود مفاوضات الرابح الأكبر فيها تنظيم طالبان. لبيت للحركة الكثير من الشروط الجنونية، ومنها إطلاق سراح خمسة آلاف سجين، ورفع أسماء قادة طالبان من القوائم السوداء، ولولا أن زلماي يعلم تفوق طالبان الحالي في أفغانستان لما حذّرها قبل أيام من «الاستيلاء على السلطة» بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وهذا لن يمنع طالبان من الاستيلاء على السلطة بالقوة.
حرصت «القاعدة» في هذه الذكرى العاشرة تحديداً على ضخ إمكانات الانبعاث الجديد، الرسالة القوية لأميركا يمكنها أن تكون علامة على مرحلة حرب أخرى شرسة وقوية مع الجماعات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم «القاعدة»، كما أدت استدارة أوباما عن أزمات الشرق الأوسط، فإن الانسحاب الشامل والكبير لأميركا اليوم من مناطق النزاع سيكوّن فراغاً هائلاً، لا يمكن لأحدٍ أن يملأه إلا الجماعات الإرهابية كما حدث في تحرك طالبان أواخر التسعينات. تبدو الصورة أكثر قتامة عما ستؤول إليه الأمور، ولكن من المؤكد أن رفع العقوبات الجزئي عن إيران، والانسحاب الأميركي، والتعامل مع المنظمات الإرهابية على أنها من الأحزاب السياسية (طالبان، والحوثي، و«حزب الله»، و«الحشد الشعبي»، و«الإخوان») ينذر بكوارث أمنية كبرى وتحولات خطيرة لا بد للحكومات القوية في المنطقة أن تأخذ هذا التطور بعين الاعتبار.