أسامة الأطلسي يكتب لـ(اليوم الثامن):
رفاهية الخارج ومعاناة الداخل.. أزمة قيادة أم غياب مسؤولية؟
منذ تأسيسها، قدّمت حركة حماس نفسها كحركة مقاومة تحمل على عاتقها شعار تحرير فلسطين، وجسّدت في بداياتها معنى المواجهة المباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي، فاستمدت شرعيتها من التضحيات، ومن قربها من الشارع الفلسطيني. غير أنّ مرور الزمن، وتعاظم أدوار قياداتها في الخارج، أفرز واقعًا مغايرًا ومعقدًا، كشف عن فجوة آخذة في الاتساع بين شعارات تُرفع باسم "المقاومة"، وبين واقع شعبي يغرق في المعاناة، وخاصة داخل قطاع غزة.
خلال العقدين الأخيرين، ومع اشتداد الحروب وتوسع الحصار، برزت ظاهرة انتقال قيادات بارزة في حماس إلى الخارج، حيث يعيشون في عواصم عربية وإسلامية، ويتمتعون بحرية حركة ومساحات واسعة من النفوذ الدبلوماسي والإعلامي. كثير منهم يقيمون في مساكن فاخرة، ويشاركون في مؤتمرات دولية، ويتنقلون بين الفنادق الخمس نجوم والطائرات الخاصة.
هذا التباين خلق حالة من النفور داخل غزة، حيث ينظر المواطن المحاصر إلى قيادته على أنها باتت بعيدة عن همومه اليومية، وكأنها تعيش في "زمن آخر". فبينما يُسحق الغزيون تحت القصف ويواجهون نقص الغذاء والماء والدواء، تُطلّ قيادات الخارج عبر الشاشات بخطابات عن "الصمود" و"الثبات"، في مشهد يبدو منفصلًا عن سياق المأساة الحقيقية.
اليوم، مع استمرار الحرب والحصار لشهور طويلة، يقف أكثر من مليوني إنسان في غزة على شفير المجاعة، حيث تتسع دوائر الفقر ويزداد النقص الحاد في الدواء والماء. ومع كل هذا، لم تبادر قيادة حماس إلى الدفع الجاد نحو وقف لإطلاق النار أو صياغة تسوية تحفظ حياة المدنيين. هنا يطرح المواطن البسيط أسئلة وجودية قاسية:
هل أصبحت حياة الناس مجرد تفصيل ثانوي أمام حسابات القيادة؟ وهل أولوية "الصمود" مقدّمة على حق الحياة؟
أحد الشبان من غزة لخّص هذه الفجوة حين قال في مقابلة محلية: "نحن نبحث عن الخبز والماء والمأوى، بينما قادتنا يحدثوننا من الخارج عن النصر. هل يشعرون أصلًا بما نعيشه؟"
مؤخرًا أثارت تصريحات القيادي في حماس، غازي حمد، جدلًا واسعًا حين دعا الناس إلى "الصبر والتحمّل". هذه الدعوة، التي جاءت وكأنها خطاب أخلاقي عام، بدت للغزيين إهانة لسنوات من الصبر والمعاناة. فالصبر لا يعوّض عن الدواء المفقود، ولا يوقف القصف، ولا يعيد من فقدوا بيوتهم وأحبتهم. هنا بدا الانفصال بين القيادة والشارع واضحًا، ليس فقط في اللغة، بل في جوهر التفكير السياسي.
في بداياتها، ارتبط اسم حماس بفكرة المقاومة المسلحة، فحظيت بتأييد واسع من الفلسطينيين. غير أنّ سيطرتها على غزة منذ 2007 شكّلت نقطة تحوّل أساسية: من حركة مقاومة إلى سلطة تُدير تفاصيل الحياة اليومية للناس. ومع مرور السنوات، ومع الحصار والدمار الناتج عن ثلاث حروب كبرى، انشغلت الحركة أكثر بالتمسك بالسلطة وإدارة الأجهزة الأمنية والإدارية، بينما تراجعت فكرة التحرير نفسها لتصبح شعارًا بعيدًا عن الواقع.
هذا التحوّل ليس جديدًا على السياق الفلسطيني. فقد سبق أن واجهت منظمة التحرير الفلسطينية انتقادات مشابهة حين تركزت قيادتها في بيروت وتونس بعيدًا عن الداخل. لكن الفارق أنّ حماس بنت شرعيتها أساسًا على قربها من الشارع الغزي، وهو ما يجعل الفجوة الحالية أكثر خطورة على مستقبلها السياسي.
كثير من المراقبين يرون أن قيادة حماس في الخارج تميل إلى استخدام مأساة غزة كأداة دعائية لتثبيت شرعيتها واستدرار التعاطف الدولي. المحلل السياسي (افتراضي) الدكتور سامر الخطيب علّق قائلًا: "الشعب لا يحتاج خطابات عن النصر، بل سياسات واقعية تنقذ حياته اليومية. تجاهل القيادة لنداءات الشارع سيضعف شرعيتها ويعزز الشعور بأنها منفصلة عن الناس."
اليوم، يقف الواقع على مفترق طرق حاسم: غزة وحدها تواجه الموت والجوع، بينما قيادات الخارج تنعم بأمان نسبي. هذا التناقض يطرح سؤالًا سياسيًا وأخلاقيًا بالغ الأهمية: هل ما زالت هذه القيادة تمثل إرادة الناس فعلًا؟ أم أنها تحوّلت إلى سلطة تسعى للبقاء في المشهد، حتى لو كان الثمن دماء شعبها؟
إن لم تستمع حماس لصوت الشارع، وتدرك أنّ الأولوية هي إنقاذ الناس ووقف الحرب، فإنها ستخسر ما تبقى من شرعيتها. فالشعب لم يعد يبحث عن شعارات كبرى، بل يريد قيادة حقيقية تتحمل مسؤولية القرارات الصعبة، وتضع حياة الإنسان فوق أي اعتبارات سياسية أو أيديولوجية.
في النهاية، يبقى الدرس الأهم أن الحركات التي تنفصل عن شعوبها تخسر شرعيتها مهما كانت شعاراتها. التاريخ الفلسطيني نفسه شاهد على ذلك. وإذا استمرت قيادة حماس في الخارج بتجاهل أصوات الداخل، فسيسجّل التاريخ أن الحركة التي بدأت بالمقاومة انتهت كسلطة بعيدة عن الناس.
غزة اليوم لا تحتاج إلى خطب جديدة ولا إلى مزيد من الشعارات، بل إلى قيادة تقترب من نبضها وتضع حياة الناس في صدارة الأولويات. والتاريخ لا يرحم من يختار رفاهية المنفى على حساب معاناة الوطن.