رولا القط تكتب ل(اليوم الثامن):
استقلال الجنوب.. من مطلب سياسي إلى ضرورة أمنية إقليميج
يشهد جنوب اليمن خلال الأسابيع الأخيرة تصاعدًا لافتًا في حدة التوترات السياسية والأمنية، في مشهد يعكس اختلالًا عميقًا في معادلة الحكم، وهشاشة البنية الإدارية، وضعف القدرات المؤسسية للسلطات القائمة، سواء تلك المنضوية ضمن إطار المجلس الرئاسي أو القوى المحلية المسيطرة فعليًا على الأرض. ورغم ميل الخطاب الإعلامي الدولي إلى اختزال المشهد في ثنائية الشمال والجنوب، فإن ما يجري في الواقع أكثر تعقيدًا وتشابكًا، ويكشف عن صراع نفوذ متعدد المستويات، يمتد من البنى القبلية المحلية إلى خطوط الطاقة والموانئ والممرات البحرية ذات الأهمية العالمية.
هذا التعقيد لا يمكن فصله عن التحولات الإقليمية والدولية التي أعادت تسليط الضوء على جنوب اليمن بوصفه عقدة جيوسياسية حساسة، لا سيما في ظل تصاعد التهديدات للملاحة الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن، وتنامي دور الفاعلين غير الدوليين في ابتزاز خطوط التجارة العالمية.
شهدت محافظة حضرموت، خلال الفترة الماضية، اشتباكات متقطعة في محيط منشآت نفطية ومواقع استراتيجية، بين قوات محلية مدعومة بغطاء قبلي من جهة، وتشكيلات أمنية وعسكرية مرتبطة بالمجلس الانتقالي الجنوبي من جهة أخرى. هذه الاشتباكات، وإن بدت محدودة في نطاقها، إلا أنها تحمل دلالات عميقة تتجاوز بعدها الأمني، إذ تعكس هشاشة السيطرة العسكرية وتعدد مراكز القرار، بما يحول دون قدرة أي طرف على فرض نفوذ شامل ومستقر.
حضرموت، بما تمثله من ثقل اقتصادي وامتداد جغرافي على بحر العرب، تحولت إلى ساحة اختبار لمعادلة القوة في الجنوب. فكل جولة توتر تعيد طرح مخاوف الانزلاق نحو صراع أوسع، قد يعيد رسم خريطة القوى داخل واحدة من أهم المحافظات اليمنية، ويهدد ما تبقى من توازن هشّ في الجنوب.
على المستوى الإداري، مضى المجلس الانتقالي الجنوبي في خطوات متسارعة لإعادة هندسة النفوذ داخل مؤسسات السلطة المحلية، من خلال تسريح أو تهميش مسؤولين محسوبين على قوى شمالية أو موالية لحكومة الشرعية. هذه الخطوات، وإن قُدّمت باعتبارها “تصحيحًا لمسار مختل”، إلا أنها تكشف بوضوح أن الصراع لم يعد عسكريًا فحسب، بل تحوّل إلى معركة على بنية الدولة نفسها، تُدار بأدوات فرض الأمر الواقع، لا عبر مسارات قانونية أو توافقات وطنية شاملة.
هذا التحول يضع الجنوب أمام معضلة جوهرية: فبينما يسعى المجلس الانتقالي إلى تكريس نفسه كسلطة أمر واقع، فإن غياب مؤسسات دولة مكتملة المعالم يجعل هذه السلطة عرضة للاهتزاز، ويحدّ من قدرتها على إقناع الداخل والخارج بجدوى مشروعها السياسي.
خارجيًا، يحاول المجلس الانتقالي تعزيز حضوره الدولي من خلال خطاب يؤكد التزامه بمكافحة الإرهاب، وحماية الملاحة الدولية، والانسجام مع المنظومة الغربية في مواجهة التهديدات العابرة للحدود، مع تسليط الضوء على انتهاكات جماعة الحوثي بحق المدنيين، وتهديداتها المستمرة للممرات البحرية.
غير أن هذا الخطاب، رغم ما يتيحه من قنوات تواصل مع عواصم إقليمية وغربية، يضع الانتقالي أمام اختبار صعب. فالمجتمع الدولي، وإن كان يتفهم منطق “الأمر الواقع”، إلا أنه يربط أي دعم سياسي طويل الأمد بقدرة السلطة المحلية على تحسين الأوضاع المعيشية، وضبط الأمن، واحترام الحد الأدنى من معايير الحكم الرشيد وحقوق الإنسان.
وتبقى الأزمة المعيشية الجبهة الأكثر اشتعالًا والأكثر تهديدًا لأي مشروع سياسي في الجنوب. فاستمرار انهيار خدمات الكهرباء، وتدهور العملة، وارتفاع أسعار الوقود، فجّر موجات احتجاج شعبية في عدن وحضرموت، كشفت الفجوة المتسعة بين الخطاب السياسي الطموح والواقع اليومي القاسي. هذه الاحتجاجات لا تستهدف طرفًا بعينه بقدر ما تعكس حالة إنهاك عام، وفقدان متزايد للثقة في قدرة النخب السياسية على إدارة شؤون الناس.
فالقوة العسكرية والسيطرة الأمنية، مهما بلغت، لا تستطيع تعويض غياب الخدمات الأساسية، ولا تحمي أي مشروع سياسي من التآكل إذا استمرت معاناة المواطنين دون حلول ملموسة.
في قلب هذا المشهد المعقّد، يبرز سؤال الهوية الجنوبية كأحد أكثر الملفات حساسية وإثارة للجدل. فالذاكرة السياسية للجنوبيين، بما تحمله من تجربة دولة سابقة، لا تزال حاضرة بقوة في الوعي الجمعي، وتغذي طموح “استعادة الدولة”. وفي المقابل، يفرض الواقع السياسي الحالي تناقضًا واضحًا، إذ يشارك المجلس الانتقالي في مجلس القيادة الرئاسي، بينما يواصل الترويج لمشروع انفصالي.
هذا التناقض لا يربك الداخل الجنوبي فحسب، بل يثير تساؤلات خارجية حول طبيعة المشروع السياسي، وحدوده، وقدرته على التحول من خطاب تعبوي إلى نموذج دولة قابلة للحياة.
غير أن التطورات الإقليمية الأخيرة أعادت طرح الجنوب من زاوية مختلفة، تتجاوز السرديات المحلية، لتضعه في صلب معادلة الأمن البحري الدولي. فالهجمات المتكررة على السفن في البحر الأحمر، وتهديد باب المندب، كشفت بوضوح فشل الكيانات الهشة والدول المنهارة في حماية الممرات الاستراتيجية. وفي هذا السياق، يبرز جنوب اليمن، بسواحله الممتدة من باب المندب إلى بحر العرب، كعامل حاسم في معادلة أمن الملاحة.
إن تأمين خليج عدن وباب المندب لا يمكن أن يتحقق عبر ترتيبات أمنية مؤقتة أو تحالفات ظرفية مع قوى ضعيفة ومتناقضة، بل يتطلب وجود كيان سياسي مستقر، يمتلك شرعية محلية، ومؤسسات أمنية موحدة، وقدرة على الشراكة مع المجتمع الدولي. ومن هذا المنظور، فإن دعم قيام دولة جنوبية مستقلة ومستقرة، لا يبدو خيارًا أيديولوجيًا بقدر ما هو مقاربة براغماتية لحماية أحد أهم شرايين التجارة العالمية.
خلاصة المشهد أن ما يجري في جنوب اليمن اليوم ليس مجرد صراع جغرافي أو خلاف سياسي عابر، بل تصادم بين مشاريع متباينة: مشروع يسعى إلى تكريس هوية جنوبية مستقلة، ومشروع يتمسك بوحدة دولة فقدت كثيرًا من مقوماتها، فيما تقف المعاناة الإنسانية والخدمات المنهارة كأكبر مهدد للاستقرار.
المستقبل يظل مفتوحًا على سيناريوهات متعددة، لكن الثابت أن أي حل حقيقي ومستدام لن ينجح دون بناء مؤسسات جنوبية قادرة على إدارة الأرض، وضبط الأمن، واستعادة الخدمات، وتخفيف معاناة الناس. وحده هذا المسار كفيل بتحويل الجنوب من ساحة صراع نفوذ إلى شريك موثوق في استقرار الإقليم، وضامن فعلي لأمن الملاحة الدولية في خليج عدن وباب المندب.


