أسامة الأطلسي يكتب لـ(اليوم الثامن):
أصوات من الداخل تكسر الصمت.. الغزيون يطالبون بوقف القتال وإنهاء استغلال معاناتهم
في قلب الدمار المستمر في غزة، وبين أصوات القصف والأنين، أخذت ترتفع أصوات مختلفة عن المعتاد. ليست أصوات الفصائل، ولا خطابات القادة في الخارج، بل صرخات الناس الذين يعيشون تحت الركام يومًا بعد يوم. هؤلاء، الذين اعتادوا الصمت والخوف، صاروا أكثر جرأة في التعبير عن مطلب واضح وبسيط: كفى حربًا.
الأوضاع الإنسانية داخل القطاع تجاوزت حدود الوصف. أكثر من مليوني إنسان يعيشون على حافة المجاعة، في ظل انهيار منظومة الصحة، وانقطاع الكهرباء، وتراجع حاد في إمدادات الغذاء والدواء. المستشفيات بالكاد تؤدي دورها، وغالبًا ما تتحول إلى ملاجئ للنازحين. في الشوارع، يجوب الأطفال بين الأنقاض بحثًا عن لقيمات يسدون بها جوعهم. أما الخيام المؤقتة التي نصبت في أطراف المدن، فهي بالكاد تحمي من حر الصيف ولا من برد الشتاء، في ظل انعدام أبسط مقومات الحياة.
في هذا الواقع، لم يعد الناس يوجهون أصابع الاتهام إلى إسرائيل وحدها، رغم مسؤوليتها المباشرة عن القصف والحصار، بل أيضًا إلى قيادات فلسطينية تعيش في الخارج، في فنادق ومساكن مريحة، بينما يواجه السكان في الداخل الموت والجوع. هذه المفارقة تحولت إلى مصدر غضب شعبي واسع. طالبة جامعية في العشرينات من عمرها، تحدثت بمرارة قائلة: “لقد سئمنا أن نُستَخدم وقودًا لهذه الحرب. نحن هنا بين الأنقاض، وهم هناك في الخارج. أوقفوا الحرب، وأوقفوهم.”
هذا الصوت، وإن بدا فرديًا، يختصر شعورًا جماعيًا يتنامى في غزة. رسائل تتداولها مجموعات صغيرة عبر تطبيقات مشفرة ومنصات التواصل تحمل مضمونًا واحدًا: نريد حياة طبيعية. نريد مدارس بدل الخيام، ومستشفيات بدل المقابر، ونريد قيادات قريبة من الناس لا من عواصم بعيدة. في خان يونس، أحد النازحين عبّر عن هذا التناقض بوضوح: “أطفالنا يموتون هنا، بينما أبناء القادة يدرسون في أوروبا. هذه ليست قيادة، هذا استغلال.”
الشرعية الأخلاقية لقيادات حماس تحديدًا باتت موضع نقاش داخلي. صور وفيديوهات متداولة أظهرت بعض القيادات يقيمون في فنادق فاخرة خارج غزة، في وقت يعيش فيه المواطن العادي على حافة الجوع. هذا التناقض جعل كثيرًا من الفلسطينيين يعيدون النظر في فكرة “المقاومة” التي يُرفع شعارها في كل مرة، بينما النتيجة على الأرض مزيد من القتل والتدمير، بلا أفق سياسي أو مخرج إنساني.
المحلل السياسي الفلسطيني، سامر الخطيب، يصف الأمر بالقول: “المأساة في غزة ليست فقط في عدد القتلى والجرحى أو في الدمار الشامل، بل في شعور الناس العميق بأن قياداتهم بعيدة عن همومهم. الشرعية الحقيقية لا تُبنى من وراء المنابر في الدوحة أو إسطنبول، بل من داخل المخيمات والمستشفيات في غزة نفسها.”
هذه الفجوة بين الداخل والخارج أخذت تتسع مع استمرار الحرب. لم تعد الانتقادات موجهة فقط إلى إسرائيل، بل باتت تطال من يتهمهم الغزيون باستغلال المأساة. كثير من المواطنين يرون أن الحرب صارت وسيلة لتثبيت النفوذ السياسي أكثر من كونها معركة من أجل الحقوق. ومع مرور الوقت، يزداد الحديث عن ضرورة مراجعة هذا المسار، بل إن بعض المراقبين يرون أن ما يجري قد يكون بداية لتحولات داخلية أعمق، ربما تضع أسسًا لمرحلة سياسية جديدة.
مع ذلك، تبقى هذه الأصوات محفوفة بالمخاطر. فالتعبير العلني عن الغضب قد يعرض أصحابه للقمع أو التخوين. لكن اللافت أن هذه المخاوف لم تمنع الناس من الكلام، ولو بصوت منخفض، في الأحياء المدمرة وخيام النزوح. الرسالة واحدة: “نحن بشر نريد كرامة وحقًا في الحياة.”
الأبعاد الإنسانية للأزمة تضيف طبقة أخرى من التعقيد. المجاعة التي أعلنت عنها منظمات أممية باتت واقعًا يوميًا. عائلات بأكملها لا تجد ما تأكله سوى وجبة واحدة بالكاد تكفي لسد الرمق. الأمراض تنتشر بسرعة في بيئة مكتظة بلا صرف صحي ولا مياه نظيفة. الأطفال يعانون من سوء تغذية حاد قد يترك آثارًا طويلة المدى على جيل كامل. هذا كله يجري بينما تُنقل صور لقيادات في الخارج يحضرون مؤتمرات أو يظهرون في وسائل الإعلام، ما يعزز الشعور الشعبي بأن الفجوة بين القيادات والقاعدة لم تعد قابلة للتجسير.
من الناحية السياسية، يتساءل كثيرون عن جدوى استمرار الحرب بلا أفق. إسرائيل ترد بقوة على كل هجوم، وتستهدف مواقع حساسة في غزة، بما في ذلك البنى الاقتصادية ومقار حكومية. الضربات الإسرائيلية لم تقتصر على المواقع العسكرية، بل شملت أيضًا أماكن يشتبه أنها مراكز قيادة أو مخازن، وهو ما عمّق حجم الدمار والخسائر في صفوف المدنيين. في ظل هذه الردود الموجعة، يتساءل الغزيون: إلى أين يمكن أن يقود هذا الطريق؟ وهل النتيجة ستكون إلا مزيدًا من الخراب؟
الواقع يشير إلى أن الحرب لم تعد فقط بين إسرائيل وحماس، بل صارت مواجهة شاملة تهدد النسيج الاجتماعي والاقتصادي لغزة. ومع كل يوم يمر، تتضح حقيقة أن المدنيين هم من يدفعون الثمن الأكبر. هذا ما جعل أصواتًا داخل القطاع ترفع شعارًا بسيطًا لكنه قوي: كفى حربًا.
قد لا تكون هذه الأصوات منظمة بعد، لكنها تعكس تحولات اجتماعية وسياسية لا يمكن إنكارها. تاريخيًا، الأزمات الكبرى كانت دائمًا نقطة انطلاق لتغييرات داخلية. وفي غزة، تبدو المؤشرات واضحة على أن الغضب الشعبي يتجاوز حدود الانتقاد العابر ليتحول إلى دعوة لإعادة التفكير في القيادة والخيارات السياسية.
الخلاصة أن غزة لم تعد فقط ساحة حرب عسكرية، بل أيضًا مسرحًا لتحولات داخلية صامتة لكنها مؤثرة. الناس، الذين تعبوا من الموت والجوع، صاروا يرفعون أصواتهم في وجه الجميع: في وجه إسرائيل التي تواصل قصفها، وفي وجه قيادات يعتبرونها بعيدة ومنفصلة عن واقعهم. هذه الأصوات تحمل رسالة لا يمكن إسكاتها بسهولة: كفى حربًا، كفى استغلالًا، وكفى صمتًا.