محمد جواد الميالي يكتب لـ(اليوم الثامن):

العراق.. الهوية بين الضياع والثبات

نتذكر كيف كنا نقف في ساحة المدرسة ايام الصف الرابع الابتدائي، ونجبر على ترديد شعارات البعث دون معنى، والذي لم نعرف غيره ليمثل الهوية، حتى مواسم احتفالات قائد الضرورة، واوقات (رفعة العلم) لم نكن نعلم ماذا تعني كلمة عاش العراق بل نعرف عاش الرئيس!

لم تكن الهوية الوطنية على مدار خمسة وثلاثين عام من حقبة الدكتاتورية جزءا من السلوك العراقي، والاغلبية الساحقة كانت لا تريد سوى الخلاص من سياط الجلاد و نكرة السلمان وزنازين ابو غريب، لم يكن العراق وطنا تحكمه الحدود الجغرافية، بل ساحة صراع لتلبية رغبات القائد! ثمان سنوات على ايران وسنتين في صحراء الخليج، وما تبقى بين الحصار و المقابر جماعية، لتقليل عدد العراقيين الشيعة، فهل كان في ذاكرتنا مجال للتفكير بالوطن أم التفكير في الخلاص؟ هل شعرنا بالانتماء لهذه الارض، أم كنا نقاتل وحدنا داخل زنزانةٍ كبيرة؟

ان المجتمعات التي تعاني من سنوات طويلة من الاستبداد، يكشف فيها أن ضياع الهوية لا يحدث فجأة، بل يكون على هيئة أسئلة مكررة تؤرق ذاكرة الافراد، و حين يبقون بلا إجابات مقنعة، تتحول هذه الافكار الى قناعات قاتلة، تتشظى معها الهويات، ويغدو الوطن بلا وطن، و يُصاب المجتمع بحالة تيه صامت، تتآكل فيها فكرة الدولة دون ضجيج، عند تلك اللحظة، يجب علينا ان نجد من يحي هذه الهوية في روح المواطنين.

اخذ السيد محمد باقر الحكيم، على عاتقه احياء العقيدة الوطنية عند العراقيين، لأجل قيادتهم نحو الخلاص وتحقيق الديمقراطية، لكن رؤيته جاءت في إطار اسلامي، لاستعادة التوازن بين الدين والدولة والهوية، وعلى الرغم ما كانت تتعرض له عائلته في العراق، وتقديمها لثلاثة وستين شهيدا، إلا أن خطاباته لم تكن طائفية، بل أصر عام 1983 على ان تكون هناك جبهة معارضة تضم الشيعة والسنة والكرد، وهذا دليل على عمق فكره في الاجتماع السياسي، محاولا من خلال المعارضة العراقية، تأسيس فكرة الهوية الوطنية، بعد عقود طويلة من القمع والابادة، كان يرى أن الهوية الوطنية إذا لم تُبنَ على أساس الشراكة والثقة، فإنها تتحول إلى قشرة هشة سرعان ما تنكسر عند أول اختبار، المواطن في نظره، لا يمكن أن يدافع عن دولة لا يشعر أنها دولته، ولا يمكن أن يصبر لأجل نظام لا يرى فيه انعكاسا لكرامته وحقوقه.

كأن شهيد المحراب كان يعلم أن الشعوب التي تعاني من ضياع الهوية، لا تعرف معنى الدفاع عن الدولة، وهذا ما حدث عند دخول الجيش الامريكي للعراق، الجميع شاهد كيف ان القوات الامنية بدأت تخلع النطاق وترمي البيرية، فرح وسعيدة باحتلال العراق!!

لذلك فأن أهمية العقيدة الوطنية تكون أكثر وضوحا عند الأزمات، لأنها لا تختبر قدرة الاقتصاد وحده، بل تختبر تماسك المجتمع أيضاً، لأن المجتمعات التي تحمل داخلها روحا وطنية راسخة، تكون أكثر صلابة أمام الحصار، وأقسى مقاومة للغزاة، وأشد مناعة أمام مشاريع الاستكبار والاستعمار، لأنها حين تنضج، تتحول إلى طاقة صبر، وإلى قدرة على تحمّل الألم دون انهيار للمعنى العام للحياة.

تجارب الشعوب تقدم شواهد واضحة على هذه الحقيقة، وتجربة إيران تمثل أنموذجا حيا لذلك، سنوات طويلة من العقوبات والأزمات الاقتصادية، وضعت المجتمع تحت ضغط هائل، مع ذلك بقي التماسك الاجتماعي حاضرا في لحظات التهديد الكبرى، القوى التي راهنت على تفكيك الداخل عبر الحرب، اصطدمت بجدار عقيدة صلب، خصوصا في محطات المواجهة مع الكيان الغاصب، حيث تداخل الأمني مع الاقتصادي، وكان الهدف الحقيقي هو كسر الإرادة قبل القدرات، التجربة هناك أثبتت أن الفقر قد يرهق الجسد، لكنه لا يكسر الروح المشدودة إلى بالعقيدة الوطنية.

العراق منذ عام 2003 يقف أمام اختبار مفتوح للهوية، الحكومات تعاقبت، والأزمات تغيرت في أشكالها، لكن السؤال ظل دون إجابة، هل جرى العمل فعلاً وفق رؤية وطنية جامعة كما أرادها شهيد المحراب الخالد، أم جرى تكريس الانقسام عبر إدارة الدولة بعقلية الغنائم والمحاصصة؟

الاختبار الأصعب لم يأتِ بعد بصورته الكاملة، الأزمة المالية القادمة بعد احتلال فنزويلا، تضع السؤال عاريا بلا رتوش، هل يستطيع الشعب العراقي أن يتحمّل انهيارا للعملة ويساند دولته، أم سيكون اليأس أسرع من الصبر، والاحتجاج أقوى من الشعور بالمسؤولية؟

الهوية العراقية اليوم بين مسارين لا ثالث لهما، طريق الاستعادة، حيث يتحول الوطن إلى معنى مشترك يتقدم على العصبيات، وطريق التآكل، حيث تبقى الوطنية مجرد شعار تتراجع عند أول الازمات، الفرق بين الطريقين لا يحسمهما الخطاب ولا بيانات الحكومة، وإنما يصنعه شعور المواطن بأن الدولة جزءا منه و تمثل امتدادا مباشرا لكرامته.

الدولة التي لا تتحول إلى عقيدة وعي في قلوب أبنائها، ستظل دولة معلقة على حافة السقوط، والوطن الذي لا يعيش في الضمير قبل أن يعيش في الجغرافيا، سيبقى ساحة مفتوحة لكل ريح، بين الضياع والثبات، تبقى الهوية هي خط الدفاع الأخير، إن سقطت، سقط كل شيء بعدها.