عبد الرحمن شلقم يكتب:
نتنياهو ساعة إسرائيل الرملية
بنيامين نتنياهو شخصية إسرائيلية أكثر من سياسية حزبية. أول من استطاع أن يحكم إسرائيل لأكثر من عقدين وأبدع منهجاً خاصاً في المناورة. جعل من اليمين كياناً يتوالد ويزداد تشدداً ويجابه اليسار بمعارك لا تتوقف. عاش في الولايات المتحدة الأميركية، وأقام علاقات مع طيف واسع من الساسة وجماعات الضغط، وتمكَّن من التغلغل في داخل مصانع القرار السياسي بما فيها الكونغرس.
عندما أراد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أن يروضه ويفرض عليه رؤيته لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وجعله ينتظر في أحد صالونات البيت الأبيض، قبل نتنياهو وانتظر الرئيس بهدوء من دون رد فعل وفي المقابلة رفض رؤية الرئيس أوباما. توجَّه بعد ذلك إلى الكونغرس وألقى خطاباً عاصفاً ووقف له أعضاء الكونغرس أكثر من عشرين مرة وهم يصفقون تأييداً لما قاله.
راجع الرئيس أوباما موقفه وبادر بتقديم مساعدات مالية وعسكرية ضخمة لإسرائيل، وفي مقدمتها تطوير تقنية القبة الحديدية والصواريخ المضادة للصواريخ. أبدع نتنياهو تكتيكاً متحركاً في تشكيل حكوماته الائتلافية مع الأحزاب اليمينية، رغم أن حزبه الليكود لم يحرز أغلبية برلمانية تمكنه من تشكيل حكومة بمفرده. في معارك دارت رحاها داخل الكنيست وخارجه، استطاع إرهاق أحزاب يسارية مثل «العمل» و«ميرتس» وجعلها تتآكل وكادت تخرج من دائرة العمل السياسي، وخاض لعبة كراسي فتحت الأبواب لليمين السياسي للهيمنة على الحياة السياسية في إسرائيل.
حوّل حزب الليكود إلى ملكية سياسية خاصة له يوجهه كيفما يشاء، وبعد توجيه عدد من التهم له وإحالته إلى القضاء استعمل رئاسته للحكومة درعاً يحميه من اللحاق بمصير الرئيس الإسرائيلي الأسبق كاتساف، ورئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت إلى زنزانات السجن. لقد تفوق على جميع رؤساء حكومات إسرائيل السابقين في مدة البقاء فوق كرسي رئاسة الحكومة بمن فيهم ديفيد بن غوريون وكل من صعد بعده إلى رئاسة الوزارة. كان هو الساعة الرملية السياسية الإسرائيلية التي تقلب كلما فرغ ترابها الأعلى، لتعود تملأ ذاتها وتنقلب وهي في ذات المكان. لقد صبَّ في ساعته تراباً سرياً جمع فيه التاريخ والأسطورة وألاعيب السياسة. ألف كتاب «مكان تحت الشمس» استعرض فيه النشأة التاريخية للفكر الصهيوني، والتركيز على أمن إسرائيل الذي لا يتقدمه أي شيء آخر لأنه مرتبط بالأرض ووجه نقدا شديدا لمبدأ التفاوض مع الفلسطينيين والعرب عموماً على أساس الأرض مقابل السلام، وشدَّد على مبدأ السلام مقابل السلام. وصف في كتابه العرب، بأنَّهم أمة لا نفع منها، ولا يمكن أن تستقيم في نهج الحضارة إلا بالقوة، وكرَّر ذلك في سطور طويلة من كتابه. يرفض التخلي عن الضفة الغربية وهضبة الجولان، ويعتبرهما من شروط أن يكون لإسرائيل مكان تحت الشمس.
كان هذا الكتاب من الروافع القوية التي أوصلته إلى رئاسة الوزارة، بل صار الكتاب جزءاً من تلموده العقائدي والسياسي. لأول مرة تخوض إسرائيل أربعة انتخابات برلمانية خلال سنتين، وتلك من صناعة الساعة الرملية لنتنياهو الذي يصرُّ أن يستمر في احتكار قيادة الحكومة، حيث يقوم بتشكيل ائتلاف وزاري، ثم يفككه إذا عارض سياساته التي لا يتوقف عن دحرجتها نحو أكثر من اتجاه وبما يخدم مخططاته التي تشبه جبل الثلج. بعد حصول حزبه الليكود على واحد وثلاثين مقعداً في الجولة الرابعة من الانتخابات التشريعية، كلَّفه رئيس الدولة رفلين تشكيل الحكومة، ولكنه فشل في ذلك في المدة المحددة وهي ثمانية وعشرون يوما حيث الرقم المطلوب لتشكيل الحكومة هو واحد وستون عضواً من الكنيست. نتنياهو يصرُّ على تشكيل حكومته من اليمين بما فيه الأحزاب الدينية المتطرفة ويرفض القائمتين العربيتين، وقام رئيس الدولة بتكليف يائير لابيد زعيم المعارضة تشكيل الحكومة، وسارع نتنياهو بإطلاق القذائف السياسية الثقيلة على لابيد، ووصف تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة لابيد بأنها كارثة وخطر على إسرائيل، ولن يتوقف نتنياهو عن مواصلة معركته ضد لابيد ومن معه.
نجح نتنياهو في إزاحة كل الزعامات السياسية الإسرائيلية عبر قيادته للحكومة على مدى عقدين وكذلك في تفكيك الأحزاب التي نافسته وهيمن بالكامل على حزب الليكود، وبعد فشله في الجولة الرابعة من الانتخابات لن يتردد في الدفع نحو انتخابات خامسة أو حتى سادسة، من أجل حماية نفسه من زنزانات السجن.
سيقلب ساعته الرملية بعد أن يضيف لها مسحوق تراب آخر لن تغيب عنه فزاعة إشراك القائمة العربية الموحدة في حكومة الوحدة الوطنية التي يسعى لابيد لتشكيلها، إذ لم يحصل حزبه إلا على سبعة عشر عضواً في الكنيست وسيحتاج حتماً إلى القائمة العربية الموحدة بزعامة منصور عباس للوصول إلى الرقم المطلوب. تعالت أصوات داخل حزب الليكود تدعو إلى تجاوز عثرة نتنياهو الذي يلاحقه القضاء والدفع بشخصية أخرى لقيادة الحزب، لكن أصواتاً أخرى من داخل الحزب تجادل بأن نتنياهو هو الليكود والليكود هو نتنياهو، وفي حالة غيابه عن عرش الحزب فمآله التفكك بل الاندثار.
لن يتردد بنيامين نتنياهو في تعبئة اليمين المتشدد بكل أطيافه وكذلك المستوطنين ليخوض بهم معركته ضد قيام أي ائتلاف حكومي لا يكون هو على رأسه، فناقوس السجن صار بالنسبة له الحجارة التي تضرب ساعته الرملية، وسيخوض معركته الوجودية الأخيرة بكل الأسلحة التي يضرب بها فوق الأحزمة وتحتها، والأيام القادمة ستكون برزخ الزمن السياسي الإسرائيلي الجديد الذي لن يكون نتنياهو بعيداً عنه ما لم تحتوه إحدى زنزانات السجون الإسرائيلية.