محمد الرميحي يكتب:
عودة عن قراءة خاطئة!
المشهد كان في أحد مقاهي إسطنبول في العشرية الأولى من هذا القرن، وفي إحدى الأسواق الجديدة، كانت تجلس فتاة ووالدتها بالقرب منا وحديثهما مسموع واللهجة خليجية، بعد قليل وصلت فتاة أخرى وظهر أنها تركية، سلّمت وجلست، ثم دار الحديث بين الفتاتين، وكان بلغة تركية، استغربت واعتقدت أن الفتاة الخليجية لا بد أنها تدرس في أحد المعاهد التركية، تركت الفتاة التركية المكان، فدفعني فضولي أن أسأل الخليجية، أين تعلمت التركية؟ ردت بابتسامة، تعلمتها من خلال متابعة المسلسلات التلفزيونية التركية، كنت أحرص على متابعتها بلغتها!
لقد كانت تركيا بأسواقها ومدنها وحتى مسلسلاتها يقبل عليها العرب والخليجيون في العشرية الأولى؛ فقد أجادت خلطة تحديثية مع لمسة تراثية، ظن كثيرون أنها باقية وتتطور. ولكنها انقلبت إلى مسار آخر، اليوم هناك أخبار طيبة في المطبخ السياسي في الشرق الأوسط. أتحدث بالذات عن الاستدارة التركية، وأن هذه الاستدارة وصلت إلى نهاياتها المرجوة، فتلك أخبار طيبة بالتأكيد لجميع الأطراف. العلاقات العربية - التركية، شهدت في مطلع القرن ازدهاراً سياسياً واقتصادياً، ثم انتكست إلى الأسوأ حتى وصلت إلى حافة الصراع.
المسار الجديد دشن مع المملكة العربية السعودية بمكالمة من قمة القرار في محادثة بين الملك سلمان بن عبد العزيز، والرئيس طيب رجب إردوغان، والعلاقات مع مصر بدأت بمفاوضات على مستوى متوسط ولكنه معلن، قبل ذلك جاءت من أنقرة إشارات إلى ترطيب الأجواء مع الجنوب في أكثر من تصريح. خاض المحللون في أسباب تلك الاستدارة، منهم من قال إن أنقرة وجدت أن توسع العداء في الجوار ضار لمصالحها السياسية والاقتصادية، ومن قال إن ذلك جزئي بسبب البرود بين أنقرة وحليف تركيا الأساسي لعقود وهي الولايات المتحدة، وتوّج البرود ذاك بإعلان واشنطن اعتبار ما جرى للأرمن في مطلع القرن الماضي إبادة جماعية، ذلك لا تتحمله السلطة السياسية التركية وتتخوف من نتائجه، بجانب عدد من الخطوات الملموسة القادمة من واشنطن ضد ما تعتبره أنقرة مصالح حيوية لها.
البعض يرى أن الوضع الاقتصادي في تركيا لا يحتمل أي مغامرات سياسية مستمرة، وقد تقود إلى صراع ساخن، فعليها أن تسعى لتبريد الملفات العالقة، من أجل فرص أفضل لاستحقاق داخلي لانتخابات عامة شبه قريبة. التفسيرات كثيرة، قد يصح بعضها وقد لا يصح، إنما الحقيقة أن هناك «استدارة» تركية تجاه الشرق والجنوب، وخاصة الفضاء العربي يرحب بها أي محب للأمن والتعاون في المنطقة. كثيراً ما قيل للإخوة الأتراك في مؤتمرات أكاديمية وغيرها، إن تدخلكم في الشؤون العربية الداخلية يوقظ الشكوك التاريخية والتي كان معظمها مأزوماً في نهاية الدولة العثمانية، وترك الكثير من الندوب والمرارة بين العرب والأتراك، فاتركوا أمور العرب وشأنهم، وكما لا تستسيغون أن يتدخل أحد في شؤونكم، فنوع الحكم أو مستوى حقوق الإنسان ومعاملة الأقليات في تركيا هي خاصة بالشعوب التركية تعالجها بالدواء الذي تفضله، إلا أن تلك الصيحات والمناشدات إما وجدت لها استجابات اعتذارية من البعض، أو آذاناً صماء من السلطة. تبيَّن الآن أن ذلك التدخل لم يؤتِ أكله كما تصورت أنقرة في البداية. العودة إلى المسار الأكثر تحقيقاً لمصالح الجميع في مرحلة من التطور الإقليمي والعالمي شديد الحساسية هو الأفضل، ويحقق الكثير من المكاسب. لا داعي للتذكير أن مسرح العلاقات الدولية يتغير؛ فالدولة الأكبر الولايات المتحدة تعاني من تذبذب في مواقفها، كما أن الدولة المنافسة لها (الصين) لم تصل إلى مرحلة الفعل النشط على المسرح. ليس من الحكمة أولاً تجاهل تلك المتغيرات، ولا من الحكمة تجاهل المصالح المشتركة التي يمكن أن تستقيد منها تركيا وأيضاً الدول العربية، خاصة التي خاصمتها تركيا من دون مبرر.
يعرف الأتراك المطلعون، وحتى في دوائر القرار أن الإسلام الحركي العربي فيه شحنة كبيرة من الشهوة الانقلابية مع فكر يقرب إلى الجمود في الشأن السياسي والاجتماعي، وأن تلك المجاميع ليست بقادرة، حتى افتراضاً لو تسلمت الحكم، أن تقدم مشروعاً حديثاً، والشواهد كثيرة ومعاصرة، فالحركة فشلت فشلاً ذريعاً في السودان، ولو أن تركيا مدت يد العون في مرحلة لمحاولة إنقاذ، (الإنقاذ)! وتبين لها بؤس المحاولة، ولا أعطت الحركة أو كلها في تونس، التي تعاني من احتقان أساسه المقاربة التي تعتمد على فكر متصلب يأبى أن يساير العصر، ولا في حتى في المغرب، والذي يواجه حكم الحزب فيه على مرونته طرقاً مسدودة، نفّرت قطاعات كثيرة من الشعب المغربي بعيداً عن مشروعهم، كما أن تركيا قد أحرقت أصابعها في تجربة تعضيد التشدد في ليبيا إلى درجة إرسال مرتزقة أجانب ومستشارين أتراك، ووجدت في النهاية أنها زادت الأزمة تعقيداً ولم تقم بحلها، كل هذا المسار وصل إلى طريق مسدودة. في العمق تخلي أنقرة عن تعضيد ذلك المشروع والذي هو تدخل في شؤون الغير، وفي الوقت نفسه نشاط غير حميد تعرف أنقرة قبل غيرها أنه غير قابل للحياة السياسية الحديثة، هو القاعدة التي يتوجب الانطلاق منها لحل بقية الملفات، بعد ذلك فإن القضايا التي يمكن أن تبحث وتقود إلى الخير العام لمنظومة العمل الإقليمي كثيرة وغير معقدة، وفي الوقت نفسه مفيدة للأطراف المختلفة. لقد شهد الميزان التجاري السعودي - التركي تراجعاً في السنوات القليلة الماضية، بعد أن كان في ارتفاع في عدد من القطاعات من بينها التجارة البينية وشراء العقارات والسياحة في تركيا، وكذلك مع دولة الإمارات، وأما مع مصر حتى سنوات قليلة كان الميزان التجاري في صالح الاقتصاد التركي، إلا أنه تراجع. في حساب الخسائر والأرباح أن سارت الأمور على قاعدة حسن النية والتصميم على تحقيق مصالح مشتركة بعيدة من دون مناورة، والتعاون المشترك في الملفات الإقليمية العالقة، يتم تعظيم الأرباح المشتركة بين تركيا والبلاد العربية، القلق أن تكون الاستدارة تكتيكية، وتلك إن حدثت فإنها أخبار غير سارة للدولة التركية، دعونا نأمل الأفضل.
آخر الكلام:
تُسمم السياسة إن تم خلطها بالأوهام، أما إذا تبنت الخلط دولة، فتكون قد دمرت كل منظومة علاقتها!