يوسف الديني يكتب:

القدس: الجلاد والضحيّة والمؤدلج

القضية الفلسطينية عادلة هذا ثابت لا شكّ فيه، لكنها الوحيدة بين كل قضايا العالم تقريباً التي لا يمكن اجتراح أي حلول عملية لصالح الشعب الفلسطيني من دون فهم المتغيّر وليس الارتهان للثابت الذي يتجدد الحديث عنه والاستثمار فيه بلا طائل للأسف، حيث بين طرفي المسألة «الجلاد» المتمثل في الصلف الإسرائيلي الذي يمثله نتنياهو والمشروع الاستيطاني و«الضحية» الشعب الفلسطيني الذي يحاول التكيّف والعيش والبحث عن حقوقه وفق قدرته على الفعل من دون أن يخسر عدالة قضيته، لكن بين هذين الطرفين هناك «المؤدلج» الذي يستثمر في تصعيد القضية وإعادة إشعال فتيلها عبر المقامرة برصيد المشاعر المقدسة لكن بأداء يستهدف أهم الفاعلين، وهم المجتمعات العربية والإسلامية التي تعاني من استهداف «حماس» المنحازة للخيار الإيراني لها بما يشبه تحويلها إلى كائنات مازوخية عليها أن تعيش عذاباً بين قضية عادلة وبين خيارات «حماس» ضد الذات من استهداف أوطانها وقياداتها السياسية والتحالف مع أعدائها والانحياز إلى مشروع ملالي طهران المضاد لجمهور القضية الفلسطينية بشكل وجودي بما لا يقارن بما شكلته حتى إسرائيل.
وفي التفاصيل فإن الدول العربية والخليجية وفي مقدمتها السعودية ومصر كانتا في مقدمة الدول المناوئة لمشروع نتنياهو الاستيطاني وتوغلات اليهود المتطرفين في الأحياء العربية في الرملة ويافا كما هي الحال مع حال حي الشيخ جراح النموذج النضالي، الذي كسب تعاطف العالم لولا أنه غرق في زحام استثمار آيديولوجية «حماس» المتطرفة والفصائل الإرهابية التي يتم رصد كل محتواها العنفي من التلويح بالذبح بالسكين وصولاً إلى شعاراتها العدائية تجاه دول الاعتدال والسعودية.
قبل عشر سنوات كتبت في هذه الصحيفة مقالاً محذراً من سلوك «حماس» التدميري بعنوان «رصيد (حماس) في خطر»، واليوم التحولات في القضية العادلة باتت أبعد من خطر رصيد «حماس» إلى قيام جبهة مضادة مجتمعية ووعي كبير ضاغط على دبلوماسية الحكومات العربية وارتهانها لخيارها الثابت بدعم القضية الفلسطينية وتجاهل استفزاز «حماس» باعتبارها جزءاً من أدوات ومشروع طهران الاستفزازي في بناء ذراع داخل فلسطين مع التنصل الكامل من أي مسؤولية خارج تفجير الأوضاع والتأليب والمحتوى العدائي الشعاراتي على غرار «الموت لأميركا»، الذي يطلقه الحوثيون ويباركه الحماسيون لهم وهم يستهدفون قبلة الإسلام بلا أي تحرّك.
ثمة تطابق في مقاربة أزمة فلسطين الآن بين آيديولوجية «حماس» الموالية لطهران وبين استغلال نتنياهو وكتلته المتطرفة في محاولة خلق إجماع على ضرورة الاستثمار في التعاطف والشرعية، لكن الاختلاف كبير جداً في أدوات ولغة الاستثمار والصفقة، حيث تقدم إسرائيل نفسها للغرب كضحية تدافع عن نفسها وتكسب تعاطف العشرات من الدول بسبب اعتمادها على تزييف الواقع واختزاله واستغلال حماقات الفصائل المتطرفة، بينما لا يمكن لـ«حماس» كبح جماح انحيازها لإيران وهجومها ضد الدول العربية والخليج والسعودية الذي تعدى في لغته وأسلوبه ما يشفع لجمهورها المستهدف من المجتمعات مع اللعب على عامل الزمن والمكان المقدس، وهي ذات العوامل التي تستثمر فيها إسرائيل للعالم الغربي.
المتحول هذه المرة أن الجمهور المستهدف من الطرفين يمكن أن يطيل بقاء الأزمة بحكم أنه مقطوع الصلة عن الجذور والسياق التاريخي للأزمة في فلسطين، فالشباب الفاعل في هذه الأزمة من جيل ما بعد الألفية Generation Z مشدود نحو مسرحة الأحداث والتفاعل معها عبر تحويلها إلى محتوى سيّار عبر لغة «السوشيال ميديا» حتى بات الآن يشكل أزمة على الشركات الكبرى في عالم المحتوى ما بين المنع والحظر الذي تمارسه الشركات ذات القيود الغربية كـ«إنستغرام» وبين المارد الصيني «تيك توك» الذي ارتفعت شعبيته مع الأزمة إلى الحد الذي حدا بتوماس فريدمان أن يخصه بمقال شديد اللماحية والشبه عن جمهور الصراع وفاعليه، لكن ما فاته أن تحوُّل الشارع إلى الرقمي هو جزء سيسهم في امتداد الأزمة وطولها وإرهاق الفاعلين فيها بإرضاء جمهورها الرقمي القابع خلف الهاشتاغات التي تعفيه من الشعور بالذنب والمسؤولية المباشرة تجاه عمل مستدام أو ضغط على المنظمات الحقوقية ضد التمييز العنصري وانعدام المساواة وانسداد الحالة السياسية.
والحال أنه بقدر ما نجحت «حماس» في استعادة ولو جزئية لفاعليتها السياسية عبر هذا التحرك العسكري المحدود؛ فإن الرد الإسرائيلي بدمويته وبشاعته المعهودة أعاد خلط الأوراق فيما يخص الواقع الإقليمي الجديد؛ وحجم الدمار المتوقع من قبل آلة الصلف الإسرائيلي الوحشية والمسنودة بارتباك المجتمع الدولي بين حجة الدفاع عن النفس وبين إدراكهم لأزمة الاستيطان وعدالة القضية تاريخياً، بمعنى آخر ارتهان مواقفهم للمتغير لا للثابت في ملف فلسطين، ومهما تكن مآلات التصعيد أو التهدئة، فالأكيد أن وضعية «حماس» والفصائل المسلحة ستكون الأصعب، خصوصاً بعد استحالة أي مراجعة نقدية لاستراتيجيتها أو تحالفاتها الإقليمية وارتهانها الكامل إلى الخيار الإيراني الذي كثفته رمزية إعادة تحويل قاسم سليماني إلى أيقونة تنتشر صوره في كل مكان حتى في علب الإفطار لأهل غزة!
صحيح جداً أن الحصار السياسي والتفاوت الكبير على مستوى أسلوب الحياة ينتج خطابات فكرية وآيديولوجية متطرفة، إلا أن «حماس» الآن تنزلق في وهم الانتصار مجدداً مدفوعة بمعادلة حربية غير واقعية، وحتى مدى الصواريخ الذي أسهم في تعزيز هذا التقدير الخاطئ، عززه وهم المؤامرة.
تحاول «حماس» الاستثمار في موضعة نفسها في جمهور لا تشاركه ذات الأهداف بسبب انحيازها لطهران وإن كانت تشترك معه في الذاكرة وعدالة القضية، لذلك فإن آيديولوجية «حماس» وأخواتها وهي الاستثمار في الجماهير على حساب الضحايا أنفسهم ستتحول إلى كارثة محدقة بقطاع غزة وإلى ضغط قد ينقلب ضد جمهورها المستهدف من الشباب، الذين وإن كانوا مشغولين باللحظة الآنية إلا أنهم لا يحملون الزخم الهائل للثقافة النضالية بسبب تحولات في سُلّم القيم والمفاهيم والثقافة والحياة الرقمية وما تفرضه من سلوك وقناعات لا يمكن لها أن تمرر طلب ملثم شراء خناجر بخمسة شياكل!