إبراهيم الجبين يكتب:

حماس ودمشق والتحوّل الأخير إلى حركة "حصن" الكبرى

لم يمنع صمت جيشه عن القصف الإسرائيلي المستمر لعمق الأراضي السورية ولا انشغاله بالتحضير للانتخابات، الرئيس بشار الأسد من اللعب بورقة الحدث الساخن الذي شغل الشرق الأوسط والعالم خلال الأسابيع الماضية، بتدهور الأوضاع في القدس ومن ثم الحرب الصاروخية المتبادلة ما بين غزة وإسرائيل، فقرّر، قبل أيام، استقبال وفد من ممثلي القوى والفصائل الفلسطينية. ونقل موقع الرئاسة السورية أن الاجتماع ناقش آخر المستجدات في الأراضي الفلسطينية، ونقل عن الأسد قوله لضيوفه إن “الكيان الإسرائيـلي لا يفهم لغة السلام ولا الحوار”.

أما خالد مشعل الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، فقد اعتاد طيلة أعوام إقامته في دمشق على الجلوس مستعدا لاستقبال ضيوفه بدوره في بيته، وخلفه علّقت صورة ضخمة لقبّة الصخرة كتبت تحتها آيات قرآنية، وفي الخارج كانت تقف المفارز الأمنية التي تتبع للمخابرات السورية المكّلفة بحمايته. صورة أراد لها مشعل، أن تكون رسالة بصرية قبل أن يفتح فمه وينطق بأي كلمة ستأتي. غير أن تلك الرسالة حملت من الارتباك القدر الكافي للكشف عن تلعثم الحركة النضالية الفلسطينية سواء على مستوى الأهداف أو المسار. وفي بيته “المحصّن” ذاك، سألتُ مشعل حينها، سؤالا لعله لم يكن ينتظره “هل حربكم، حرب حماس في فلسطين، حرب تحررية أم حرب دينية؟”، فأجاب بعد تردّد “حرب تحررية طبعا”، فتابعتُ “وماذا تفعل الشعارات الدينية التي خلفك إذن؟”. وماذا ستصنع تلك الأفكار بوحدة الشعب الفلسطيني متعدّد المذاهب والأديان الذي يقاوم من أجل حريته؟ فدخل في شروحات طويلة حول علاقة الجهاد بالحرية، ولكنه لم يجب عمّا كان يدور في عقل الفلسطينيين في الشارع الذين بدأ الكثير منهم بالتذمّر من ذلك التماهي المتهافت لقادة حماس مع صورة الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، حتى أن بعضهم علّق بالقول “لم يبق لخالد مشعل وإسماعيل هنية سوى أن يتفقدا غرّة شعر رأس كل منهما، كما يفعل نصرالله من تحت عمامته باستمرار في خطاباته”.

التحوّل الذي أسّست له حماس في طبيعة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بدا مكمّلا لما أرادته أجنحة في الحركة الصهيونية ذاتها، رأت، مبكّرا، أن الإبقاء على علمانية التيارات التي قادت المنادين بتأسيس إسرائيل أمرٌ ضار بالقضية اليهودية، وأنه لا بأس من فتح الباب لحرب دينية يهودية لاسترداد أرض الميعاد. وهذا لم يكن ليعمل بشكل فعّال إزاء مناضلين عرب قادمين من مناخ منفتح يكافح ضد الاستعمار الأجنبي بالمفاهيم التي سادت في الشرق خلال النصف الأول من القرن العشرين.

ولأنه ليس لدى الفلسطينيين من نموذج سياسي حديث يُحتذى به أفضل من نهج الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي عرف كيف يدوّر الزوايا ويمدّ الجسور في الاتجاهات المتناقضة، فقد كانوا حين يريدون التحرّر من عرفات يلوذون بخطّ الشيخ الفلسطيني عبدالله عزام أستاذ الجهاديين في أفغانستان، الذي أدّى فكره إلى “عولمة الجهاد” وظهور الحركات الإرهابية مثل القاعدة وداعش.

حركة حماس أرادت أن تكون أكثر تشاطرا فتأخذ من عرفات مرونته، ومن عزام تشدّده، فذهبت نحو الاتجاهات كافة، ولم تغلق الباب أمام أكثر أشكال التطرّف خطورة على المنطقة العربية خلال العقود الماضية، إيران الخمينية. وقد ترافق ذلك مع تمدّد الإيرانيين البطيء في سوريا. فعثرت حماس على ضالتها بطرق باب دمشق التي رحّبت، وكان من الجيد بالنسبة إليها لإزعاج السلطة الفلسطينية ومسار المفاوضات، أن تحتوي حماس ومعها الجهاد الإسلامي أسوة بمجموعة الفصائل الفلسطينية التي طوتها تحت جناحها من قبل لأغراض عدّة. فالخدمات التي كانت تؤديها أدوات النظام السوري من الفلسطينيين تجاوزت الساحة الفلسطينية، لاسيما إسهامها في “أسلمة” المقاومة السياسية المدنية والعسكرية اللبنانية والوصول بها إلى ما وصلت إليه اليوم، وأبرز تلك الأدوات كان أحمد جبريل قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، الذي لعب دورا خطير وحساسا أواسط الثمانينات، حين اشتد الصراع الشيعي – الشيعي في لبنان، والذي يروي بنفسه كيف طار إلى طهران ورتّب أوراق الفصائل الشيعية اللبنانية لدى القيادة فيها، وعاد بعد أسبوع ليجمع عباس الموسوي الأمين العام السابق لحزب الله مع الأسد بحضور نبيه برّي.

ولأن حماس منبثقة أساسا عن جماعة الإخوان المسلمين، التي بينها وبين نظام الأسد ما صنع الحداد، فإن دمشق بقيت حذرة في تعاطيها معها منذ البداية، وقد برز هذا حين رفضت طلبا بافتتاح مكتب لحماس في سوريا، مطلع التسعينات، فيما ظلت حماس مصرّة على التقرّب من دمشق، طيلة عقد التسعينات، حتى توجّت تلك المساعي بزيارة مؤسسها الشيخ أحمد ياسين إلى دمشق ولقائه مع الأسد الذي فتح لها المجال للعمل داخل سوريا. واستمرت العلاقة بين الطرفين في تصاعد وتنسيق طالما أن النهج الذي تختطه حماس لا يتعارض مع هيمنة دمشق على أي قرار يُتخذ.

في العام 2011 اتخذت حماس قرارا بتأسيس فصيل “أكناف بيت المقدس” العسكري الذي يتبع لها، بقيادة المرافق الشخصي السابق لمشعل محمد زعموت للعمل في مخيم اليرموك في دمشق، ليكون جزءا من الفصائل السورية المعارضة، ثم أعلنت حماس أنها لا علاقة لها بهذا الفصيل لاحقا. على الرغم من تأييد قادتها للثورة السورية ورفع أعلامها. حتى أن هنيّة وجّه في فبراير عام 2012 كلمة إلى الثوار السوريين خلال خطبة ألقاها في الجامع الأزهر في القاهرة، وقال فيها “أحيّي شعب سوريا البطل، الذي يسعى نحو الحرية والديمقراطية والإصلاح”. بعدها مباشرة زار إيران والتقى المرشد علي خامنئي الذي أكّد أنّ “إيران ستبقى إلى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، وأنّ مواقفها تجاه القضية الفلسطينية ثابتة وصادقة، ولن تخذلها أبدا”.

وكان من ثمار نهج حماس الإيراني في العام 2014 بروز حركة “الصابرين” الشيعية في غزة واسمها الكامل “حركة الصابرين نصرا لفلسطين” وتعرّف عن نفسها اختصارا بـ”حصن”، وهي مدعومة ماليا من إيران وحزب الله، وكانت قد صنعت على قالب الحوثيين في اليمن، معتبرة على لسان مؤسسها هشام سالم عضو الجهاد الإسلامي المنشق، أن ما يحصل في فلسطين اليوم يشبه ما حصل للإمام الحُسين في كربلاء وأن تحرير فلسطين يحتاج إلى حسين جديد.

أشاعت حماس حينها أنها حظرت نشاط “حصن”، غير أن الأخيرة نفت وواصلت عملها السياسي والمالي والتبشيري، وقدّمت التهنئة لإيران بعد توقيع الاتفاق النووي، وأصدرت بيانا نعت فيه مقتل سمير القنطار الذي كان يحارب لدعم النظام في سوريا، وبقيت “حصن” تكبر وتتوسّع حتى طغت مواقفها على مواقف حماس التي أخذت تتبناها حرفيا وترفع صور قاسم سليماني في شوارع غزّة وتعتبره شهيد القدس.

تتقرّب حماس اليوم من نظام الأسد من جديد في إطار تنسيقها مع الإيرانيين، بغض النظر عمّا سيلحقه ذلك التنسيق بالقضية الفلسطينية وبنظرة العالم إليها من أذى، فضلا عن ازدراء الشعوب العربية التي تحتلها إيران لعلاقة حماس الوثيقة مع القوة الغاشمة التي دمّرت بلدانها وهشّمت نسيجها الوطني.

وقد يتمكّن مشعل بتبريره شكر إيران والثناء على الأسد من إقناع السذّج من جمهور حماس، إلا أن الضرر الكبير الذي تسببت وتتسبب به حماس بالقضية الفلسطينية أكبر بكثير من أي ضرر معنوي قد يخلّفه شكر هنية وفريقه للأسد وطهران بسبب دعمهما لما اعتبره انتصارا لغزّة مؤخرا، فقد تمكّنت حماس من تمزيق القضية الفلسطينية إلى قضيتين، وحوّلت التأييد العالمي الكبير الذي حظي به صمود أهل حي الشيخ جراح العرب في القدس، أمام محاولات تجريفهم وتهجيرهم، إلى تنديد ورفض واسعين للإرهاب واستهداف المدنيين بفعل الصورة التي تقدّمها حماس عن ذاتها وعن جهادها واعتدادها بحلفائها الأكثر إجراما في عالم اليوم.