وليد ناصر الماس يكتب لـ(اليوم الثامن):

الفقيد الدكتور عبد القوي علوي... مدرسة في السلوك والإنسانية !!

ما إن بلغني نبأ وفاة الدكتور عبد القوي محمد علوي حتى نزل الخبر على نفسي كالصاعقة المزلزلة التي هدت كياني وعصفت بذهني وجعلتني في حالة من الذهول واللاوعي، فأحسست إن دمائي قد تجمدت، إذ لم أكد استوعب الخبر من أساسه وأنا أطالعه، فغاص تفكيري في فضاء من التصورات والخيالات فخُيل لي أن ذلك من الحلم، وكم تمنيت أن يكون حلما لا حقيقة، فالمصاب جلل والخسارة لا تُحتمل، والرحيل كان مبكرا، وما أحوجنا لهذا النوع من الرجال الأفذاذ في زمن أغبر.

لقد رحل رحمه الله تعالى بعد أن احتل مساحة واسعة في قلوب الجميع من أبناء حالمين وغيرهم وكل من عرفه أو تعامل معه، وترك خلفه الأثر الطيب والسمعة الحسنة والأفعال المثالية التي لا تُنتسى بتقادم السنين وتعاقب الأيام.

الفقيد رحمه الله تعالى سليل أسرة عريقة عُرفت بالعلم والتُقى ومكارم الأخلاق والتواضع، وقد تمثل الفقيد الإخلاق الإنسانية الفاضلة من صدق وأمانة وإخلاص وحب لفعل الخير وإسداء للمعروف في سلوكه وممارساته اليومية، فعلاقته بمهنته الطبية تقوم على أسس متينة وصلبة من الصدق والأمانة والإخلاص والاستقامة، فحرص على النهوض بها أكثر مما يمليه الواجب عليه، فلم ينظر لمهنته كوظيفة تُؤدى من خلال ساعات عمل محددة في اليوم، بل ينطلق من رؤيته وقناعاته الراسخة باعتبار ذلك عمل إنساني بالمقام الأول، يحرص على تقديمه للجميع دون استثناء وعلى مدار الوقت، لا يرجو من وراء ذلك سوى رضا الله تعالى ثم استراحة ضميره الحي. فلم يكن للمردود المادي أي حضور في تفكيره أو وجود في سلم أولوياته، رغم أن ذلك كان بإمكانه وفي متناول يده، فلقد نأى بنفسه عن العمل في مشافي خاصة بمقابل مالي وفير، برغم الدعوات التي وجهت له، لتخصصه النادر في مجال طب الأطفال، ولخبرته الواسعة ولمهاراته الفائقة المشهود له بها، فضلا عن إخلاصه وتفانيه وحبه للعمل، غير أنه أبى إلا إن يكون بين أهله وأبناء بلدته، يعالج مرضاهم ويضمد جراحهم، مقدما كل جهوده وعصارة تجاربه وخبراته دون كلل أو ملل.

عندما تمعن النظر في شخصية الفقيد الدكتور عبد القوي علوي رحمه الله، تشعر أنك أمام شخصية فذة وهبه الله إخلاق وسمات متفردة، قلما يتصف الآخرون بها، وذلك ما جعله محل حب وإعجاب وتقدير الجميع، تراه مبتسما بشوشا على الدوام رغم مشاق العمل وضغوطه المختلفه، يعامل مرضاه بتفان وإخلاص نادر، لا يتذمر أو يبدي انزعاجا وتجهما مهما كانت الأسباب والمؤثرات، ولا يتوانى في تقديم واجباته الإنسانية في كل الأوقات ومختلف الظروف والأحوال أثناء الدوام وبعده، دون الالتفات لأي مقابل مادي أو معنوي، محتسبا الأجر عند الله تعالى.

كما كان رحمه الله من أكثر الأطباء تفانيا وتعلقا بمهنته، ومن الأطباء القلائل ممن يصدق وصفهم بملائكة الرحمة، حقا لقد كان إنسانا عظيما صاحب خلق ملائكي، رقيق القلب فياض المشاعر لطيف الطباع، يعي واجباته على أحسن وجه وأكمل صورة، ويدرك معاناة الناس وهمومهم وما حل بهم من ضوائق الفقر والعوز وقلة الحيلة، فينبرى مسخرا كل وقته وجهده لتقديم أجل الخدمات وأقدس الأفعال، راجيا الأجر والمثوبة من رب غفور رحيم.

حين اجتاحت بلدنا جائحة كورونا خلال العام الماضي 2020م، ووصلت الإصابات بها إلى قرى وعزل ردفان، تقاعس الكثير من الأطباء عن أداء واجباتهم الإنسانية، واختفوا تماما عن المشهد خوفا من الإصابة بالفيروس، غير أن ذلك لم يثن فقيدنا الراحل عن النهوض بواجباته المعهودة، بل حمل على كاهله مسؤولية التصدي للكارثة فكان في قلب العاصفة مشاركا لا متفرجا، يعالج المرضى وينشر الوعي الصحي وأساليب وأشكال الوقاية من المرض في أوساط الناس، موضحا إياهم طرق التعامل مع الحالات المشتبهة، فلم يُرهب بما رُهب الأخرون منه، فلقد قطع على نفسه عهدا للوفاء بواجباته المقدسة إلى آخر لحظة مهما كلف ذلك من ثمن.

وحين اجتاحت البلد جائحة كورونا خلال عامنا الجاري 2021م للمرة الثانية، كان الوباء فيها أشد فتكا وأكثر انتشارا وتفشيا، إذ كانت مديريات ردفان أكثر جهات البلاد تأثرا به واحتضانا له، إلا إن ذلك لم يمنع فقيدنا الراحل رحمه الله من القيام بواجباته كما منع غيره من الأطباء، فكانت العيادة التي يعمل بها تكتض بالمرضى المصابين بالأمراض المختلفة طلبا للعلاج، فلم يألوا جهدا في تقديم أشكال العلاج المطلوب لهم، الأمر الذي تسبب في انتقال العدوى إليه لمخالطته إياهم، فدفع حياته ثمنا لإخلاصه وحبه لواجباته ووفاءه مع مرضاه، وقد ترك رحيله أعمق الجراح في قلوب ووجدان أبناء ردفان قاطبة، وخلف فراقه آلام وأحزان لا تنتهي، وفجوة يصعب سدها وملئها.

برحيل الطبيب الإنسان الدكتور عبد القوي محمد علوي تخسر حالمين خاصة والجنوب على وجه العموم كادرا طبيا من خيرة الأطباء وأمهرهم، وأكثرهم حبا للعمل وإتقانا للمهنة، ضرب أروع الأمثلة في ميدان العمل بالإخلاص والتفاني والاستقامة والتضحية، في زمن أفتقد فيه الكثير من الأطباء للأساس الإنساني للمهنة الطبية، وأحالوا تلك المهن السامية إلى مصدر للربح والتكسب غير المشروع، على حساب أوجاع المرضى ومعاناة الفقراء والغلابى، غير عابئين بوازع ديني أو ضمير إنساني وإخلاقي أو برادع قانوني.

رحل الفقيد الإنسان الدكتور عبد القوي علوي وترك خلفه سجلا حافلا من المآثر والممارسات الإنسانية العظيمة، إذ ستظل سيرته الطيبة وسمعته العطرة وأعماله الحميدة نموذجا يُقتدى به، ومدرسة في الإخلاق والقيم نستلهم منها كل معاني الوفاء والتسامح والإنسانية وحب التضحية.
رحم الله الفقيد الدكتور عبد القوي محمد علوي العبادي برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته.