إبراهيم الجبين يكتب:
ثمن التطبيع مع الأسد والحدود الإيرانية
تناقلت وسائل الإعلام تصريحات وزير الخارجية السوري فيصل المقداد المرحّبة بعودة العلاقات العربية مع النظام السوري إلى طبيعتها، وهو الذي عبّر عن ارتياحه للقاءات الثنائية التي أجراها على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة. يقول المقداد إن تلك الاجتماعات أظهرت تغيراً في الأجواء السياسية الدولية تجاه بلاده.
وصف المقداد تلك التحركات العربية بأنها “غير مسبوقة”، وأضاف أن “اللقاءات معهم (العرب) مهمة دون شك، ونحن نرحب بأي مبادرة لاستعادة العلاقات الطبيعية”، وأنها “مؤشر مهم على التوجهات على الساحة الدولية، التي باتت تدرك أن سوريا بهويتها الوطنية والحضارية وبما حققته في حربها ضد الإرهاب أوضحت أنها، رغم انفتاحها على عودة العلاقات الطبيعية، فإنها لن تخضع للضغوط ولن تقبل بأي شروط سياسية”. ولكن هل يصدق المقداد في قوله إن عودة تلك العلاقات ستكون بلا شروط؟
الواقع أن نظام الأسد لم يغيّر نبرته هذه منذ عقد من الزمان، وكان يضع معادلة “بلا شروط” قبل الحديث عن أي علاقة يمكن أن يجري تنشيطها مع أي طرف عربي أو دولي. بينما كانت الشروط من نصيب الدول المقاطعة والتي سحبت سفراءها وبعثاتها الدبلوماسية من دمشق احتجاجاً على الجرائم التي ارتكبها النظام بحق مواطنيه والتي لم تعد بحاجة إلى إثبات بعد أن أقرتها جميع المنظمات الأممية، وآخرها التقرير الذي رصد قتل 350 ألف مواطن سوري بالاسم على يد النظام في جميع المناطق السورية.
إيران لن ترحّب بتقدّم عربي خارج عن سيطرتها في سوريا، ولا بتطبيع وانفتاح وردي كذاك الذي يصفه المقداد، ولو أدركت السعودية أن هذا ما يزعج الإيرانيين فستقدم عليه
بالعودة إلى الشروط، طلب العرب من الأسد الالتزام بقرارات مجلس الأمن الخاصة بالمسار السياسي لحل الملف السوري، الذي يعتبره هو مسألة داخلية، بينما يراه العالم كله، وحتى حلفاؤه، مسألة دولية تخص الجميع. واليوم ووفقاً للمقداد، لم يعد الأمر كذلك. فلا شروط لاستئناف العلاقات العربية مع الأسد.
ومن بين جميع اللاعبين العرب، تجد المملكة العربية السعودية التي ما زالت تمثّل الثقل العربي والإسلامي في الإقليم، أنه من الصعب غض النظر عن شروط تطبيق القرار 2254 القاضي بانتقال سياسي وبإنشاء هيئة حكم وطيّ الصراع الذي طال أكثر من اللازم. في الوقت ذاته لا تخفي مساراً من التفاوض المباشر مع إيران، الداعم الرئيسي للأسد، يقابله مسار من التطبيع المتقدّم قادته دول حليفة للرياض مثل الإمارات العربية المتحدة والأردن ومصر وغيرها، وفي حين كان الشرط الأساسي للتطبيع مع الأسد، بعيداً عما كثر تكراره على ألسنة وزراء الخارجية من حديث عن تطلعات الشعب السوري، هو فك ارتباط الأسد بالإيرانيين. فعلى أي شي يجري التفاوض والتطبيع؟ على سوريا أم على القضايا الخلافية الأخرى مع إيران، مثل اليمن والعراق ولبنان؟ أم أن القصة السورية باتت ورقة إيرانية بدلاً من أن تكون علاقة الأسد مع إيران ورقة بيده هو مع العرب؟
على رقعة الشطرنج التي يرتسم الشرق الأوسط وفقها، تقول إيران إنها لن تقبل أي تغيير على حدودها ولا على حدود الدول المجاورة لها، وتلمّـح إلى أن الوجود الإسرائيلي على حدودها غير مقبول. فعن أي حدود تتحدث إيران؟ حدود الدولة أم حدود المشروع؟ أم حدود نفوذ الولي الفقيه؟ ترفع إنذاراً من هذا القبيل في وجه أذربيجان، وتحشد القوات العسكرية في مناورات “فائزون خيبر” بينما تحطّم بنفسها حدود جميع الدول المحيطة بها وتلك التي تبعد عنها آلاف الكيلومترات.
الحدود الإيرانية باتت تخترق حدود السعودية التي ما تزال في حيرة من أمرها، فطريق تفاوضها مع إيران لا بد وأن تختتم كل جلسة منه بتصريح لمسؤول رفيع يطالب بوضع حد للتوسع الإيراني وضبط سلوك طهران. وحين تتقدم الدول العربية من دولة باتت تحت السيطرة شبه التامة من إيران، مثل سوريا، فإن القدم العربية تطأ الحدود الإيرانية من جديد. وهذا ما لن تجده إيران مريحاً لها. حتى وإن اعتبره المقداد انفتاحاً بلا شروط. ففي حقيقة الأمر الشروط ذات القيمة لم تكن عربية ولا سورية، بل إيرانية صرفة.
بالعودة إلى الشروط، طلب العرب من الأسد الالتزام بقرارات مجلس الأمن الخاصة بالمسار السياسي لحل الملف السوري، الذي يعتبره هو مسألة داخلية
السعودية ما تزال تجمّد دعمها للمعارضة السورية، ممثلة بهيئة المفاوضات التي تتخذ من الرياض مقراً لها، وتنظر بارتياب إلى الائتلاف السوري المعارض وصلته الوثيقة مع تركيا التي تشهد علاقاتها انتعاشاً مع محور الرياض – أبوظبي – القاهرة. ولا يبدو أن حظوة الائتلاف لدى السعوديين ستكون أكثر من حظوة رئيس الوزراء اللبناني المستقيل المعتذر سعد الحريري. وبينما يتصاعد التخوّف من انحسار أميركي عن المنطقة، نشهد انحساراً عربياً عنها، يجسّده الانحسار السعودي حول قضايا الداخل وتنميته وتعزيز الحكم بدلاً من لعب الدور المحوري القيادي في العالم العربي.
لن ترحّب إيران بتقدّم عربي خارج عن سيطرتها في سوريا، ولا بتطبيع وانفتاح وردي كذاك الذي يصفه المقداد، ولو أدركت السعودية أن هذا ما يزعج الإيرانيين فستقدم عليه، لكن ثمنه ستجد نفسها مضطرة لدفعه للسوريين، نظاماً ومعارضة. وعلى ما يبدو حتى الآن فإن الرياض ليست لديها خطة مهيأة لذلك. فهي لا تعرف ما الذي يجب أن تقدّمه للمعارضة السورية، ولا ما سيتطلبه تطبيع علاقاتها مع نظام الأسد.
وحتى يحصل أمر كهذا، ستكون إيران قد حضّرت ملفات أخرى تضيّق الخناق أكثر على التحركات العربية وتضع أمامها العراقيل. فهناك ما يختبئ خلف تخوفها من أي تغير ملموس في العلاقة مع دمشق في ظل تنافسها الشرس مع الروس على الاستثمار في سوريا الواقع، لا الشعارات ولا العواطف ولا الهوية الوطنية والحضارية التي يتغنى بها المقداد.