د.محمد علي السقاف يكتب:

أبعاد الدورة الـ76 للجمعية العامة للأمم المتحدة

في شهر سبتمبر (أيلول) من كل عام، تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعات وجلسات يحضرها قادة دول العالم من رؤساء الدول ورؤساء حكومات ووزراء خارجية عدد من الدول الأعضاء.
ومن خلال كلمات ممثلي الدول الأعضاء بالإمكان تعرف على المستوى الخطابي على الأقل توجهات سياسات بلادهم ووضع الحالة الدولية وتطوراتها فهي تمثل منبراً دولياً تتابعه وسائل الأعلام الدولية، وتنشر أخباره عن قرب وترصد مداولاته، وبذلك يرى البعض في الجمعية العامة للأمم المتحدة أنها تمثل منبراً ديمقراطياً عالمياً يختلف عن مجلس الأمن الدولي الذي يرى فيه البعض الآخر أنه يشكل نوعاً من التمييز بين الدول الكبرى وبقية الدول الأعضاء في المنظمة، ويطلق عليه بالمجلس النخبوي «الأوليغارشية» بحكم المزايا والسلطات التي يتمتع بها الأعضاء الدائمون في المجلس منذ تأسيس المنظمة الدولية بإعطاء تلك الدول حق «الفيتو» أو النقض، في حين أنه في إطار الجمعية العامة فإن مبدأ المساواة من دون تمييز بين الدول الأعضاء، لا يفرق شكلياً على الأقل بين دولة مثل الصين الشعبية ذات المليار و412 مليون نسمة، ودولة عضو لا يتجاوز عدد سكانها مئات آلاف نسمة.
وتشاء صدف هذه الدورة أن يترأس الجمعية العامة السيد عبد الله شاهد وزير خارجية جمهورية مالديف الذي لا يتجاوز عدد سكانها 436 ألف نسمة، ومع ازدياد حركة استقلال عدد كبير من الدول النامية أدى ذلك إلى تشكيل كتل تصويتة لتلك الدول جعل البعض يسميها الأغلبية الأتوماتيكية التي تساعد على تبني كثير من القرارات في إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة. الأمر الذي دعا القوى الكبرى أن تسعى إلى استمالتها للتصويت للقرارات التي ترى فيها أنها تعزز مصالحها في المحافل الدولية وفي سياستها الخارجية في مواجهة القوى الأخرى المنافسة لها، مثل الاهتمام الكبير الذي توليه الصين للكتلة التصويتية الأفريقية المكونة من 45 دولة.
بدأت الدورة الـ76 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 سبتمبر الماضي، وجاءت هذه المرة مختلفة تماماً عن التجمع الذي كان افتراضياً بالكامل في عام 2020، ومع ذلك ستظل جائحة «كوفيد 19» تلقي بظلالها على أعمال الدورة الجديدة، لكن ذلك لم يمنع عدداً من القادة حضورهم شخصياً، وآخرون شاركوا عبر تقنية الفيديو.

من جهته، أكد الأمين العام أنطونيو غوتيريش في خطابه الرئيسي أمام الجمعية العامة أهمية أن يستيقظ العالم، خاصة في ظل اقتراب الإنسانية من حافة الهاوية، وتحرك العالم في الاتجاه الخاطئ، قائلاً لزعماء العالم والسفراء المشاركين في افتتاح المناقشة: «هذا وقتنا؛ لحظة للتحول. حقبة لإعادة تفعيل التعددية... دعونا نستعيد ثقة الناس، دعونا نلهم الأمل، ودعونا نبدأ الآن». وأشار إلى خطر فقدان الثقة ليس فقط في حكوماتهم، ولكن في قيم الأمم المتحدة مثل السلام وحقوق الإنسان والكرامة للجميع والمساواة والعدالة والتضامن.
وتناول الأمين العام الإشارة إلى بعض الملفات العالقة في أماكن، مثل أفغانستان وإثيوبيا واليمن وميانمار وسوريا ومنطقة الساحل في أفريقيا، وتابع بالقول؛ نشهد أيضاً انفجاراً في الاستيلاء على السلطة بالقوة. مضيفاً أن الانقلابات العسكرية تطل برأسها من جديد، بالإضافة إلى ذلك (وهنا مربط الفرس) قوله: «يعتبر الافتقار إلى الوحدة الدولية عائقاً آخر؛ حيث تؤدي الانقسامات الجيوسياسية إلى (تقويض التعاون الدولي)، ما يحد من قدرة مجلس الأمن على اتخاذ القرارات اللازمة». هذا التشخيص المهم لقضايا العالم التي طرحها الأمين العام للأمم المتحدة يختلف عن خطابه السابق قبل تجديد مهامه في ولاية ثانية، ما يستدعي منا الوقوف أمامها بأبعادها الدولية وأبعادها الإقليمية فيما تناوله قادة العالم في الدورة ذاتها.
ترقب المجتمع الدولي سماع كلمة الرئيس الأميركي جوزيف بايدن لرصد نقاط الاختلاف المحتمل بين سياسته والسياسة التي اتبعها سلفه الرئيس دونالد ترمب، وتبيَّن أحد أوجه الاختلاف بينهما، وذلك من دون انتقاد سلفه، بتشديده أن إدارته قد تحولت من أسلوب دبلوماسية «أميركا أولاً» إلى أسلوب التعددية، وقال بهذا الصدد: «لقد عدنا إلى طاولة المفاوضات في المنتديات الدولية، وخاصة الأمم المتحدة، بهدف تركيز الاهتمام وتحفيز العمل العالمي بشأن التحديات المشتركة»، مشيراً إلى إعادة انخراط الولايات المتحدة مع أنظمة الصحة العالمية، المشاركة في مبادرة لقاح كوفاكس، وإعادة الانضمام إلى اتفاق باريس للمناخ، والاستعداد للترشح لمقعد في مجلس حقوق الإنسان العام المقبل.
وقال بايدن إنَّ أمام العالم خيارين؛ إما التحلي بالقيم الديمقراطية التي يتبناها الغرب أو تجاهلها لصالح الحكومات الاستبدادية، مؤكداً أن الولايات المتحدة تتَّجه نحو حقبة جديدة من الدبلوماسية الدؤوبة، في وقت تتصدي فيها للتهديدات التكنولوجية الناشئة وتوسع الدول الاستبدادية.
وتعهد بعد كل ما ذكره أعلاه «بعدم الاستمرار في حرب باردة جديدة أو عالم منقسم إلى كتل جامدة»، وبالطبع هذه الفقرات من خطاب الرئيس الأميركي فُسرت على أنها موجهة إلى الصين، وهي في الواقع امتداد لهجوم سابق وجّهه للصين في خطابه الأول أمام الكونغرس الأميركي في أبريل (نيسان) الماضي، حين اعتبر أن أميركا «تتنافس» مع العملاق الآسيوي ودول أخرى للفوز في القرن الـ21. وأضاف: «يظن المستبدون أن الديمقراطيين لا تمكنهم المنافسة»، مشدداً على أنه لا يسعى إلى مواجهة مع الصين، ورداً على هذا الخطاب أكد متحدث باسم الخارجية الصينية أن على الولايات المتحدة ألا تفرض نظامها السياسي على دول أخرى، وخصوصاً بلاده، فالديمقراطية حسب قوله: «قيمة مشتركة للإنسانية وليست سلعة حاصلة على براءة اختراع من قبل دولة معينة، ففرض النظام الديمقراطي على الدول الأخرى بدعة وتلاعب بالقيم الديمقراطية...!!». من الواضح كما أشار أمين عام الأمم المتحدة عشية انطلاق اجتماعات الدورة السنوية الـ76 للجمعية العامة لوكالة «أسوشييتد برس» أن الولايات المتحدة والصين تنزلقان نحو حرب باردة جديدة، منبهاً أنها ستكون مختلفة عن الحرب السابقة، وربما تكون أكثر خطورة وأصعب في إدارتها.
في مقال مثير، أشار بهذا الصدد خبير في الشؤون الصينية في مقال له في صحيفة اللوموند الفرنسية في 16 يوليو (تموز) الماضي تحت عنوان مثير مقلق «للتحقق أن الحرب العالمية الثالثة لن تحدث يجب النظر إليها أنها في طريقها للاشتعال ويتوجب الاستعداد لمواجهتها»، ومستنداً في بداية مقاله إلى أن أول القيادات الأجنبية التي التقى بها الرئيس بايدن في البيت الأبيض بعد انتخابه هو على التوالي رئيس وزراء اليابان، تبعه رئيس كوريا الجنوبية، ولقاءات مع قادة مجموعة الدول السبع وأعضاء دول حلف الناتو، وكل هذه اللقاءات تمحورت حول موضوع رئيسي واحد «في مواجهة الصين ما العمل؟». وللحديث بقية.