يوسف الديني يكتب:

السعودية والمناعة الصلبة

لا يمكن فهم الهجوم المستمر على السعودية في هذه الأيام من دون أخذه في سياقات خارج ملف الأشخاص الذين يتم الزج بهم بطريقة انتهازية رخيصة من الطرفين إلى فتح الأسئلة حول إشكالية تحول مكان ومكانة المملكة وقيمتها المتعاظمة في العهد الجديد إلى تحد يخلق أسواقاً سوداء ضخمة للتضليل والأكاذيب ينتفع منها تجار الأزمات.
هذه الإشكالية هي حالة سياسية بحاجة إلى فحص أكثر من الاهتمام بالأشخاص، لأن فهمها يشكل نموذجاً مهماً سيتذكره السعوديون والعقلاء والمنصفون في قراءة كل موجة ابتزاز ومغالطة تسقط معها رموز إعلامية وسياسية كبرى، من مؤسسات وشخصيات سياسية غربية وأحزاب وربما أنظمة، في أتون استهداف السعودية مع فقدان الأدلة واتخاذ مواقف مبنية على الانتهازية نصرة لآيديولوجيا أو تيار سياسي وبشكل غير أخلاقي وانتهازي في أحايين كثيرة، كما شهدنا خلال الفترات السابقة.
جوهر تفكيك هذه الظاهرة هو استغلال المكانة الاستثنائية لهذه الدولة على مستوى الجغرافيا والتاريخ والإمكانات والفرص الاقتصادية ثم النفط، وصفقات الأسلحة والاستثمارات الضخمة، وهما محفزان يمكن من خلالهما فهم هذا الاضطراب والتناقضات في التصريحات والمواقف، خصوصاً في بعض الدول الغربية والأجنحة السياسية المتصارعة فيها.
لفهم سياق هذا الصخب، يجب الرجوع إلى مدخل مفاهيمي مهم، وهو الدعاية السياسية «البروباغندا»، وهي واحدة من أهم الأدوات؛ يتم توظيفها في عالم السياسة والاقتصاد بهدف تغيير الصورة النمطية، أو المبالغة في تحشيد الجماهير لاتخاذ موقف من قضية ما يتجاوز حجمها الهدف المركزي للدعاية، وهو العمل على «صياغة الرأي العام» و«كسب تأييد مختلف المجموعات الاجتماعية» و«بناء رؤية موجهة تجاه دولة ما أو منطقة أو نموذج تغييري رؤيوي ناجح»، وهذا ما يحدث الآن، وبشكل هستيري بلغ أوجه بالترويج للتطرف والفساد والمحسوبية، وهو المثلث الذي تم تدميره في رؤية 2030 في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ومن خلال طروحات ومشاريع قائد التغيير عراب الرؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي تحول إلى أيقونة إصلاحية كبرى عند الأجيال الجديدة من السعوديين الذين يشعرون بتأثير هذه الرؤية يوماً تلو آخر بدءاً من القطيعة الأولى مع مثلث استهداف الاستقرار: الإرهاب والفساد والمحسوبية ووصولاً إلى تحول هذا الوعد الذي أطلقه في تصريحه الشهير «لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد كائناً من كان... وسوف يحاسب»، وتحول هذا الوعد إلى ممارسة مؤسسية بلغت ذروتها بشكل غير مسبوق، حيث الإعلان عن بلاغات الفساد متاحة بخط مجاني!

وللتاريخ فإن استراتيجية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في تدشين الحرب على مثلث استهداف الاستقرار وطرحها في وقت مبكر مع بدايات الرؤية لضمان نجاحها، هي استراتيجية تصحيحية مشابهة لما قام به الملك المؤسس عبد العزيز بعد انحرافات للمفارقة كانت متصلة بالتطرف ومحاولة التغول ضد منطق الدولة، كما أن الظروف التي ولدت فيها رؤية 2030 تؤكد أننا نعيش «السعودية الجديدة» في طور التأسيس الجديد... عصر ما بعد النفط والرفاهية الاقتصادية القائم على الاستثمار والانفتاح على العالم.
والحق يقال إن المملكة العربية السعودية، منذ أن كانت إمارة في الدرعية وحتى الآن عاشت مخاض هذا الاستهداف والتصحيح المستمر وهو سر تألقها وتجاوزها للتحديات والمنعطفات الحرجة، فهي أولاً أكثر الدول العربية والإسلامية تأثراً وتأثيراً ليس باعتبارها قبلة دينية فحسب، وإنما علامة فارقة على المستوى الاقتصادي المنفتح بلا هوادة على الأسواق العالمية والسياسية الخارجية، كان قدرها أن جزءاً من قوتها صلابة مجتمعها الداخلي الذي عاش تجربة التوحيد وتشكل وعجن بالانتماء الوطني وإدراك فضيلة الاستقرار حتى في أكثر الأوقات تهديداً حين طالت المجتمع تقلبات جمعية لا واعية في أحضان الأصولية.
الرؤية التي يعيش أصداءها وهي في أول خطواتها السعوديون وباتت نموذجاً محفزاً للمنطقة ليست تنظيراً أو تجريباً، بل نتيجة – وهذا ما يتجاهله المستهدفون - قرار صعب وحساس وشجاع تصدى له ولي العهد السعودي في أول ظهور صريح له أعلن فيه القطيعة الشاملة مع التطرف والتنظيمات والحرب عليها وتسمية تنظيمات بأسمائها ثم إعلانها تنظيمات إرهابية هو بداية الحرب الشاملة على الإرهاب التي مع إعلان الحرب على الفساد والشفافية وحصار المحسوبية والهدر المالي ضاق الخناق على كثير من المنتفعين من قصر واختزال الحرب على الإرهاب على العمليات الإرهابية التي كان أبطالها الحقيقيون في الميدان لكن وراءهم كان هناك ثلة من المنتفعين من بقاء الخزان الفكري للتطرف بتحديد مسببات واهية كالبطالة أو التغريب... إلخ. وعدم الحديث عن التنظيمات المتطرفة أو اختطاف سماحة الإسلام واعتداله.
العارفون بالتاريخ السعودي الحديث منذ لحظة التكوين يدركون بجلاء أن حجم استثمار التنظيمات المتطرفة في السعودية كان مبكراً، وأدى إلى انشقاقات داخلية تم علاجها على المستوى الأمني من معركة السبلة الفاصلة إلى حادثة جهيمان ثم إفرازات حرب الخليج وبروز الإسلام السياسي ولاحقاً تضخم «القاعدة» و«داعش» إلا أن مرحلة الحرب الشاملة لم تكتمل إلا بلحظة الرؤية وإعلان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن «القطيعة الشاملة».
المعركة لحماية رؤية 2030 صمام المستقبل طويلة ومليئة بالتحديات، أهونها هذه السوق السوداء العبثية التي هي وقود رديء لاستهلاك بعض مؤسسات الإعلام الغربي الذي بات يستخدمها كأدوات ضغط حين تقسو عليه أسعار النفط وإدمانه للأوراق المحروقة، وفي المعركة ضد حماية الرؤية وضد التطرف لا يمكن تصور الكمال؛ هناك أخطاء ونقص وطموحات ما زالت تأخذ طريقها للتفعيل والفاعلية، إلا أن الثابت أن الداخل السعودي اكتسب مناعة صلبة كجبل طويق أيقونة السعوديين الجغرافية وبات يدرك قيمة القطيعة الشاملة مع التطرف والفساد الذي عجل بانكشاف تيار المتسترين والمبررين.
خاتمة القول التطرف والفساد المالي مترابطان، وكلاهما يعتمد على الآخر في نموه وتطوره وتجذره واختراقه للمؤسسات والمجتمعات، التطرف هو التأطير النظري لاختراق سيادة الدولة ومنطقها بآيديولوجيا عابرة شمولية، والفساد هو اختراق للشفافية والنزاهة المالية، الأول يمول الثاني بالنظرية والثاني يرفد الأول بالمال... ما حدث للتمهيد لرؤية 2030 هو القطيعة مع المسببات ورفع سقف النزاهة لأقصاه «كائناً من كان» وهو جزء من تاريخ معيش مشاهد ومحسوس لا يمكن مهما بلغت حملات التضليل والاستهداف إلا أن يعزز المناعة الصلبة بأن «الزبد يذهب جفاءً» وأن «ما ينفع الناس يمكث في الأرض»!

-------------------------------------

نقلا عن الشرق الاوسط