د. صبحي غندور يكتب:
أيُّ جيلٍ عربيٍّ جديد نأمل منه إحداث التغيير المنشود؟
صحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضًا مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلبًا على الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك توجد الآن حاجة ماسَّة لخطاب عربي نهضوي مشترَك، كما الحاجة للخطاب الوطني التوحيدي داخل الأوطان نفسها.
لكنّ الحديث عن "نهضة عربية" مطلوبة يعني القناعة بأنَّ العرب هم أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة لكنّها تشكّل فيما بينها امتدادًا جغرافيًا وحضاريًا واحدًا وتتكامل فيها الموارد والطاقات. والمتضرّرون من هذه "النهضة" المنشودة هم حتمًا من غير العرب ممّن يعملون، في الماضي وفي الحاضر، على تجزئة الأمَّة العربية وتشجيع الانقسامات فيها حفاظًا على مصالحهم في المنطقة.
إنّ "الكلّ العربي" هو مكوَّن أصلًا من "أجزاء" مترابطة ومتكاملة. فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل.
إنّ القومية هي تعبير يرتبط بمسألة "الهويّة" لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجًا سياسيًّا أو نظامًا للحكم أو مضمونًا عَقَديًّا/أيديولوجيًّا. لذلك من الخطأ مثلًا الحديث عن "فكر قومي" مقابل "فكر ديني"، بل يمكن القول "فكر علماني" و"فكر ديني"، تمامًا كالمقابلة بين "فكر محافظ" و"فكر ليبرالي"، و"فكر اشتراكي" مقابل "فكر رأسمالي".. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير "الفكر القومي" فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضًا، يكون تعبير "العروبة" هو الأدقّ والأفضل حالياً حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتّى لا تختلط مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب مع قضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوّعة التي اتّسم بها الفكر القومي العربي في العقود الماضية.
من أجل ذلك، تتطلّب النهضة العربيّة النهوض أولًا بدور المفكّرين والمثقّفين العرب الذين يعتقدون بالانتماء للعروبة الحضاريّة. كما أنّ الدعوة تتطلّب الانطلاق من القناعة بوجود علاقة خاصّة بين العروبة الثقافيّة ومضمونها الحضاري المرتكز على دور الرسالات السماوية في الحياة العربية.
كذلك يتطلّب تحقيق النهضة العربيّة التمييز بين أهمّية دور الدين في المجتمع وبين عدم زجّه في مهام الدولة وسلطاتها واختيار أشخاصها.
كما أنّ السعي للنهضة يوجب الالتزام برفض أسلوب العنف في العمل السياسي وباختيار نهج الدعوة السلميّة والوسائل الديمقراطيّة لتحقيقها.
ومباركٌ هو كلُّ جهدٍ حصل ويحصل في العقود الأربعة الماضية، على امتداد الأرض العربية وخارجها، من أجل إعادة نهضة الأمَّة العربية، بعدما جرى فيها من انحدار وتراجع وكبوات على مختلف الأصعدة والمستويات.
لكن رغم كثرة الجهود التي حدثت والكتابات عن أهمية "مشروع النهضة"، فإنّ واقع الحال العربي ازداد تدهورًا ولم يخرج "المشروع النهضوي" بعدُ من حيّز التنظير إلى حال التطبيق العملي. ولعلّ السبب في ذلك لا يعود إلى كثرة التحدّيات وسوء الظروف فقط، بل إلى عدم التوافق العربي بعدُ على الأسس الفكرية لهذا المشروع النهضوي المنشود، وأيضًا، وهذا هو الأهمّ، إلى عدم توفّر الأطر التنظيمية السليمة لتحقيق المشروع ومتابعة تنفيذه.
وقد يكون السبب أيضًا هو في طغيان "السياسي" على "الفكري" والتنظيمي" في الجهود التي تُبذل من أجل مشروع نهضوي.
لكنّ السؤال المهمّ الذي يتمّ تجاوزه معظم الأحيان في مسألة "المشروع النهضوي"، هو سؤال: "كيف"، إذ يحصل التركيز على أسئلة: أين؟ ماذا؟ ولماذا، وهي أسئلة تحصر المشروع في الجانب النظري ولا تُغيّر من واقع الحال العربي. لذلك فمن المهمّ أن تكون الأولوية هي لكيفية مخاطبة "الجيل العربي الجديد". هذا الجيل المعني أولًا وأخيرًا بأيِّ "مشروع نهضوي". فهو جيل تنفيذ هذا "المشروع" وهو جيل حصاد نتائجه. فحتّى يحدث التغيير للأفضل، ستكون المراهنة دائمًا على الأجيال الشّابة ودورها الفاعل في صناعة المستقبل. فأيُّ جيلٍ عربيٍّ جديد هو الذّي نأمل منه إحداث التغيير؟
إنَّ " الجيل القديم" في أيّ مجتمع هو بمثابة خزّان المعرفة والخبرة الذي يستقي منه "الجيل الجديد" ما يحتاجه من فكر يؤطّر حركته ويرشد عمله. فيصبح "الجيل القديم" مسؤولًا عن صياغة "الفكر" بينما يتولّى "الجيل الجديد" صناعة "العمل والحركة" لتنفيذ الأهداف المرجوّة.
هنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والحركة في أي عمليّة تغيير، كما تتّضح أيضًا المسؤوليّة المشتركة للأجيال المختلفة. فلا "الجيل القديم" معفيّ من مسؤوليّة المستقبل ولا "الجيل الجديد" براء من مسؤوليّة الحاضر. كلاهما يتحمّلان معًا مسؤوليّة مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضّخ الصحيح والسليم للأفكار، تكون الحركة صحيحة وسليمة من قِبَل الجيل الجديد نحو مستقبلٍ أفضل.
المشكلة الآن في الواقع العربي الرّاهن هي أنّ معظم "الجيل القديم" يحمل أفكارًا مليئة بالشوائب والموروثات الذهنية التاريخية الّتي كانت في السابق مسؤولة عن تدهور أوضاع المجتمعات العربيّة وتراكم التّخلّف السياسي والاجتماعي والثقافي في مؤسّساتها المختلفة، بل نجد بعض قيادات "الجيل القديم" أصبحت مصابة بمرض "الإزدواجية" حيث فكرها الوطني والعروبي لم يعد ينسجم مع مواقفها السياسية التي انغمست في اوحال الطائفية والمذهبية والمناطقية.
فالمفاهيم المتداولة الآن في المجتمعات العربيّة هي التي تصنع حاليًّا فكر الجيل الجديد وهي التي ترشد حركته. وحينما يبحث الشّباب العربي المعاصر عن أطر فاعلة للحركة، لا يجدون أمامهم في معظم الأحيان إلّا جماعات تزيد في أفكارها وممارساتها من حال الانقسام بالمجتمع، أو قد يدفع بعضها بالعناصر الشّابة إلى عنف مسلّح ضدّ "الآخر" غير المنتمي لهذه الجماعة أو طائفتها أو مذهبها!.
فمعظم المفاهيم التي تحرّك الجيل العربي الجديد الآن، هي مفاهيم تضع الّلوم على "الآخر"، الوطني المحلي أو العربي الخارجي، في أسباب مشاكل وسلبيّات الحال الراهن، وأولويات "أجندة عملها" هي مواجهة هذا "الآخر". وهي بذلك مفاهيم تهدم ولا تبني، تفرّق ولا توحّد، وتجعل القريب غريبًا والصّديق عدوًّا!.. فيصبح الهمّ الأوّل للجيل العربي الجديد هو كيفيّة التمايز عن "الآخر" لا البحث معه عن كلمةٍ سواء.
هي فرصة هامّة، بل هي مسؤوليّة واجبة حينما نتعامل مع سؤال: "كيف النهوض العربي؟"، أن نسعى لإصلاح واقع وفكر الجيل العربي الجديد المعاصر، فذلك هو المدخل الصحيح من أجل بناء "نهضة عربية شاملة".