عن رحلتي الوحيدة إلى الضالع

كنا قد عقدنا العزم أن نشارك بمجموعة كبيرة من عدن في تشييع جنازة شهداء مدرسة سناح بالضالع
في عام 2013 ...

وكانت هي زيارتي الأولى للضالع. بت ليلة السفر في تضارب نفسي فالضالع في مخيلتي هي تعبئة اجتماعية فرزتنا فرزاً مناطقياً وحسبتني تلك المفرزة " زمره" فقط لأني بدوي من شبوة، والضالع التي أنوي السفر إليها عقر دار " الطغمه " ثقافة خبيثة تغذى بها أمثالي ومن ابناء جيلي ولم نكن طرفاً في صناعتها... ولكن حجم الكارثة الانسانية التي اصيب بها الجنوب في سناح وقصف أطفال في المدرسة وهم يشاركون عزاء شهداء كان يحتم علي أن أكذب على نفسي وأوهمها بتجاوز رهبة تلك التجربة ...

انطلقنا في اليوم الثاني بعد العصر بعد أن أخرنا موعد السفر عدة ساعات لدواعي أمنية، فالضالع كانت تحشد لها الثوار من كل مناطق الجنوب وجيش الاحتلال يصعد من استفزازه للناس..

وصلنا الضالع في المساء وكان ليل الضالع نهاراً .. الوفود تتوافد عليها من كل حدب وصوب والطرق شبه مغلقة من الزحام....

عند أول نقطة عسكرية للمقاومة  كانت أول مرة في حياتي أشعر بشعور التحرير .. فهذا علم الجنوب يرفرف على نقطة عسكرية جنوبية
ألقى علينا التحية العسكرية أحد أفراد المقاومة مشيراً (ادخلوها بسلام آمنين) وحين بدا لي سوق المدينة إذ بصور الشهداء على الأعمدة وفي المحلات وفي كل زاوية يمكن أن يحط عليها نظرك وهناك في أحد المفارق صورة كبيرة جداً للرئيس البيض.

يا إلهي!! ماهذه الأجواء الجنوبية المختلفة عن أي مكان آخر بالجنوب ؟!!

إنها الضالع باختصار ... هناك اصطف على جوانب الطريق شباب حديثو السن مسلحون.
قلت من هولاء ؟
قيل لي هؤلاء عناصر المقاومة الجنوبية اصطفوا لحماية وتنظيم مواكب الوفود.... للأمانة كانوا منظمين ومنضبطين .

التفت يساري وصديق لي يؤشر بيمينه انظر هناك ياحيد !!!  معسكر الاحتلال بقيادة المجرم ضبعان في تلك التبه محاصرون
ومدججون بالسلاح وكما بني اسرائيل يقاتلون المؤمنين من وراء سد منيع عالٍ ولا يواجهون.

على فكرة وسبحان الله كان دليلي المتحدث ساعتها العميد سالم الحسني.

استمر يسرد لي عن بعض البطولات التي تعتبر معجزات تقاوم بها مقاومة الجنوب في الضالع قوات الاحتلال ومع حماسة العم سالم شعرت بشعور وطني لم أشعر به من قبل .. شعور أعادني إلى 45 عاماً ردفان الذئاب الحمر ورجال أكتوبر ومقاومة الانجليز من الربيز إلى أزقة حوافي كريتر والشيخ....

حطينا رحالنا في قرية تسمى كَبَار وبالتحديد منزل الثوار منزل الشهيدالقائد عبدالله المهندس رحمه الله غادرت فرقة المقاومة التي كانت ترافقنا من مدخل الضالع لنجد مضيافنا الشهم البطل وفي جو صقيع بارد في استقبالنا....
دخلنا وإذ بالمجلس جنوبيين من كل الجنوب فسيفساء وطنية رصت احجارها بعناية من شبوة وأبين والمهرة وعدن ويافع وحضرموت وردفان والشعيب والصبيحه وكل مناطق الجنوب ....ليلتها سهرنا إلى قرب الفجر في حوارات كان لي فيها نصيب الأسد مع عبدالله رحمه الله...

الذي قال لي عرفت من هولاء؟ وهو يشير إلى صورة في صدر الجدار قلت لا ... قال هذا سيف الضالعي وبجانبه محمد صالح عولقي ( ابتسمت).

فأخذته عذراً لأفتح محور التاريخ في الحوارات فوجدت هؤلاء القوم قد طووا الكثير من الصفحات.

فمكانة امراء ال شايف في قلوب شباب الضالع ورجاله بعكس ماكنت أعتقد، بل امتزج التاريخ الجنوبي في صدورهم بجانبه الإيجابي فقط، ونزعوا كل أوراق الصفحات السيئة عندما اقترب. الصباح أخذونا إلى غرفة مجاورة لنرتاح قليلاً قبل موعد الانطلاق لمراسم التشييع...

وفي الحجرة وجدت شاباً نائماً .. همس لي بصوت منخفض أحد رفاق رحلتي هل عرفت هذا ؟؟ قلت لا!
قال سند محمد علي أحمد انصدمت في داخلي وبلعت ريقي .. رباااه ابن زعيم من زعماء "الزمرة" نائم آمن مؤتمن في عقر دار الطغمه ؟!!

((لازلت آثار التعبيئة الغبية ترهقني) فأخذت نفساً عميقاً وذهبت لأتوضأ لنصلي الفجر بعدما نادت مساجد مهد الاشتراكية بالجنوب اذان الفجر... اعذروني فالموقف أكبر مني والتاريخ المغلوط الذي دس في الصدور مشوهه..

انطلقنا بعد الإفطار إلى وسط المدينة، كان الشهيد عبدالله بجانبي يشرح لي مواقع العدو التي تحاصرها المدينة ويشير هناك استشهد فلان وهناك فلان وهنا قصفوا بيت فلان وجدت أن الضالع جرح ينزف لا يلتئم بسبب وجود بؤر الاجرام اليمني بين تجمعات السكان...

وبعد أن تحرك الموكب الجنائزي المهيب الذي اصطفت فيه المركبات إلى عدة كيلوهات نظرت على استحياء إلى بعض التبات حولنا يميني واليسار فقد سمعت أصوات زغاريد نساء مصاحبة لطلقات رصاص!!

قال لي المتعوب حفظه الله العميد ناصر الحسني مدير شرطة خورمكسر حالياً ارفع رأسك هولاء أمهات وأخوات وبنات كل الشهداء يودعن قافلة استعداد لتجهيز قافلة اخرى فهذه المدينة كتب عليها أن تفتدي كل الجنوب بالدم صبح مساء

انتهت مراسم التشييع واكرمونا أهل الضالع كرماً حاتمياً فقررنا أن نغادر عائدين للعاصمة عدن...

قبل انطلاقنا توقفت عند أحد البقالات لأشتري بعض المرطبات فاذ بالبائع شمالي!!
همست له كيف يعاملوك هنا ابتسم وقال تحمينا المقاومة حفظها الله ..

وعند وصولي إلى عدن وبعد ان استرخيت على فراشي بدأت أسرد الاحداث لزوجتي ام طارق..
وما أن وصلت بالسرد إلى زغاريد أمهات الشهداء انفجرت باكياً بالصوت العالي وكأن مكنون سنوات التضليل في صدري خرج ساعتها إلى غير رجعة...فقد تعلمت في تلك الرحلة معني كيف يكون لك وطن مستقل..... رحم الله الشهيد المهندس.
والذي أراد لنا الأنذال باغتياله اغتيال وطن...