سمير عادل يكتب لـ(اليوم الثامن):

القليل من النفاق السياسي قد لا يضر بالصحة!

بعيدا عن كل التحليلات السياسية، وبعيدا عن من يدافع عن حق روسيا بالدفاع عن امنها أو إنها خرقت القانون الدولي، في حين كلنا نعرف أن روسيا دولة إمبريالية وليس لديها سوى البلطجة العسكرية أسوة بأمريكا التي تحاول فرض هيمنتها وتوسعها وحماية مصالحها، نقول بعيدا عن كل ذلك فإن أربعة أيام فقط منذ إعلان اعتراف بوتين بالجمهوريتين الانفصاليتين في منطقة دونباس، كانت كافية للعالم كي تعرف حجم النفاق السياسي الذي ينفقه الساسة الغربيون وخاصة الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية بزعامة بوريس جونسون لإخفاء حقيقة صراعها مع روسيا على الأرض الأوكرانية.  

وللتوضيح أكثر، فأن العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا وبفضل التطور التكنولوجي للاتصالات الذي أنتج لنا الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي كي تصل لنا المعلومة دون رتوش، وبالرغم من محاولات لصياغة الأخبار كل حسب مصالحها وبث مجموعة من الحقائق وحجب أخرى، كشفت لعموم العالم انه بدون النفاق السياسي لا يمكن تحميق البشر من قبل حكوماتهم لتمرير سياساتها عليهم، سواء كانت الحروب أو الاحتلال أو سياسات التقشف وشد الأحزمة على بطون العمال والكادحين والتي يغلفونها بأسماء رقيقة كي لا تخدش الحياء مثل (الإصلاحات الاقتصادية) أو الحصار الاقتصادي وغيره. وليس هذا فحسب بل لا يخلو ذلك النفاق السياسي من العنصرية والتمييز القومي تجاه ساكنين الشرق الأوسط وما يسمى بالعالم الثالث، بحيث يكبر حجم النفاق السياسي بقدر حجم العنصرية التي تتخلله. 

أكثر الدموع الساخنة في الغرب التي تذرف على أوكرانيا تأتي من عيون بايدن- جونسون. وتجري دموع الساسة الغربيين في كل لحظة تباعا من ماكرون الفرنسي وشولتس الألماني وتردو الكندي لتشكل نهرا يجري من الغرب ويتجه نحو الشرق إلى اليابان وينتهي في أستراليا. أي بعبارة أخرى إن المجتمع الدولي الذي تشكله صناعة الإعلام الغربي يبكي بحرقة على اختراق القانون الدولي وانتهاك السيادة وتقسيم أوكرانيا والحرية وحقوق الإنسان في أوكرانيا. 

حقا إن أكثر ما يثير الحنق و الاشمئزاز والتقزز هو ما ينطق به بايدن وجونسون ليشكلا معا أكبر معزوفة من النفاق السياسي في العالم. وفي الحقيقة ما يحيرني شخصيا انه كيف للمرء يراهن على ضعف ذاكرة البشر كي يلبس قناعا مخادعا ومزيفا ليضلل العالم من أجل تمرير مصالحه بأي ثمن. إن جون بايدن الرئيس الأمريكي الذي يبكي اليوم على حرب روسيا غير القانونية على أوكرانيا، كان من أول الديمقراطيين أيدوا الحرب على العراق وغزوه، أما جونسون الذي وقع على بريكست ويحاول اليوم عن طريق العنجهية الدعائية العودة إلى أن تكون بريطانيا رقما في المعادلة الأوروبية لتعويض خسارتها الاقتصادية والسياسية لخروجها من الاتحاد الأوروبي، فالطبقة الحاكمة التي ينتمي إليها بأحزابها العمال والمحافظين هي من وقفت بشكل مطلق إلى جانب الإدارة الأمريكية لتبرير كل السياسات الوحشية في العراق. وإذا كانت روسيا تخاف أو تخشى على مستقبلها من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ولها حججها التي تسوقها في حربها وغزوها لأوكرانيا، فلم يكن للعراق أي حلف ولا نية للتدخل في أي تحالف ولا قدرة سياسية أو عسكرية تهدد أوروبا بسبب حرب أمريكا عليها عام ١٩٩١ والحصار الاقتصادي، ولم يكن حتى رقما في معادلة المنطقة كي تعبر القوات الأمريكية عشرات آلاف من الأميال وتغزو العراق. إن بايدن -جونسون الذين يحلون محل بوش-بلير، يعرفون جيدا أن اجتياح جيوشهم للعراق كان بدون قرار من مجلس الأمن الدولي كما تفعل روسيا اليوم في أوكرانيا، فلماذا هذا العويل على خرق القانون الدولي في أوكرانيا.

ولكن مسلسل الرهان على ذاكرة السمكة عند بايدن والساسة الغربيين لا يقف عند اختراق القانون الدولي، فها هم ينددون باعتراف روسيا بجمهوريتين انفصاليتين وعلى أنها خرقٌ للسيادة. ويبدو لبايدن أن سيادة كل من ينتمي لحلفه في أوروبا مقدس بينما السيادة في الشرق الأوسط وتحديدا العراق لا قيمة لها، بل بالامكان ايضا ان انتهاك تلك السيادة في العراق وتقسيمه كان يؤدي إلى تعرض أمن وسلامة جماهير العراق إلى خطر ويضع مصير وحياة الملايين من جماهير العراق في مهب رياح الصراعات القومية والطائفية لا تأخذ بالحسبان، طالما تؤمن مصالح الغزو والاحتلال. لقد كان بايدن صاحب قرار تقسيم العراق إلى ثلاثة فيدراليات قومية وطائفية عام ٢٠٠٦، سنية وشيعية وكردية، ولحسن حظنا لم يكن ملزما من قبل الإدارة الأمريكية بالرغم من تصويت الكونغرس عليه. إلا أنه كما يقول المصريون (يا حبة عيني) يبكي على تقسيم أوكرانيا.  

وهكذا يمضي مسلسل النفاق الغربي في منحنىً تصاعدي، حيث تقرر المحكمة الجنائية الدولية متابعة ملف جرائم حرب تقع أوكرانيا. أين تلك المحكمة الجنائية من جرائم أمريكا-بريطانيا في العراق، أين المحكمة الجنائية الدولية من قتل أكثر من ربع مليون إنسان على اقل التقدير وقسم من المؤسسات الدولية تذهب في تقديراتها إلى قتل أكثر من مليون أنسان جراء الغزو والاحتلال في العراق. أين المحكمة الجنائية الدولية من قتل أكثر من ٨٠٠ متظاهر في العراق في أكتوبر من عام ٢٠١٩ لم يطالبوا سوى رغيف خبز نظيف وكرامة إنسانية ومستقبل آمن. إن هذه المحكمة الجنائية أقل ما توصف بأنها محكمة عار على جبين الإنسانية، لا تظهر الى السطح سوى عند الحاجة المشبوهة.

وأخيرا ليت ذلك المنحني يقف عند حد معين كي يكف المرء عن التقيؤ من المعايير المنافقة عن حقوق الأنسان واللاجئين. لقد أغلقوا كل الأبواب أمام اللاجئين من سورية والعراق وليبيا والصومال واليمن، والمئات منهم غرقوا في البحر المتوسط وبحر إيجة ومات العديد بسبب البرد القارس، وتنصل الجميع منهم، وهم أي الحكومات الغربية من دمرت بلدان أولئك اللاجئين عبر حروب الوكالة. أما اليوم فتفتح أبوابها أمام اللاجئين الاوكران، وترحب كل الدول الغربية وبقدومهم دون قيد أو شرط. فرئيس الوزراء الكندي يرحب بكل أوكراني يريد القدوم إلى كندا بينما يقول المستشار الألماني إنهم اتخذوا الخطط الجاهزة لاستقبال اللاجئين. في حين أداروا الظهر قبل أشهر للأفغان التي سلمتهم أمريكا إلى مقصلة طالبان. وتكشف قضية الانفتاح على اللاجئين الأوكرانيين والذين بحق يستحقون توفير كل المستلزمات المادية لإيوائهم وإبعادهم عن خطر الحرب، نقول تكشف من الجانب الآخر العنصرية الغربية، عنصرية الطبقة الحاكمة في الغرب تجاه البشر في الشرق. وبهذا يثبت أن كل مفاهيم حقوق الإنسان ليست أكثر من ورقة بيد الأنظمة البرجوازية الحاكمة لتبرير تدخلاتها السافرة في قلب الأنظمة المعارضة لها و بنفس الوقت هي أداة لتنظيف صورة وجه سياساتها القبيحة المعادية لكل ما هو إنساني.

الهجوم الروسي على أوكرانيا، والحملة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا ليس لها أية علاقة لا بشعب دونباس ولا بحقوق الإنسان ولا بالسيادة ولا باختراق القانون الدولي ولا بالحرية والديمقراطية. أنها حرب بين الدول الإمبريالية، بين روسيا التي تريد إعادة أمجاد القيصر وإمبراطورتيه، والولايات المتحدة الأمريكية لجر أوروبا تحت قيادتها وفرض هيمنتها عليها من جهة، ومن جهة أخرى لاحتواء التمدد الروسي الذي يسير بخطى حثيثة بدعم الصين. وكل تلك المفاهيم والعناوين تجري تحتها عمليات قتل الأبرياء وترويعهم في أوكرانيا، وفرض الأجواء العسكرتارية والرعب ليس على صعيد أوكرانيا بل على صعيد أوروبا والعالم. نحن في العراق اختبرنا حرارة الحروب ومرارة الغزو وجرائم الاحتلال وبرد وتشرد اللجوء، عشنا وأطفالنا تملأ عيونهم رعب دوي سقوط صواريخ الكروز الأمريكية وقصف الطائرات، قضينا عشرات الليالي والظلام يبعث الخوف والقلق في نفوسنا ولا نعرف هل نحن في الزمان والمكان الخطأ كي نقلب آخر صفحة من حياتنا. علينا أن نرفع صوتنا وندين بأشد العبارات هذه الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا وندعو إلى وقفها فورا إلى جانب إيقاف كل أشكال التصعيد المسعور من قبل الحلف الغربي.