عبدالله السناوي يكتب:
الرهينة الأوكرانية في عالم يتغير
الأزمة الأوكرانية في مشاهدها الأولى وتداعياتها تنبئ بنظام عالمي جديد.
تحت وهج النيران تتبدى حسابات استراتيجية أوسع وأخطر مما هو ظاهر على سطح الحوادث، التي انزلقت إلى مواجهات عسكرية واسعة.
بالنظر إلى طبيعة الأزمة، فإنها اختبار ميداني لحقائق جديدة تكاد أن تعلن عن نفسها، ومراجعات عند الجذور للتحالفات والآليات والقواعد الأساسية التي حكمت العلاقات الدولية لثلاثة عقود تلت انتهاء الحرب الباردة.
إننا أمام عملية ولادة قيصرية لنظام عالمي جديد. بالتزامن مع قرب التوصل إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني في مباحثات فيينا فإننا أمام عملية ولادة قيصرية أخرى لنظام إقليمي جديد يوشك أن يعلن عن نفسه دون أن تكون حقائقه استبانت وتوازناته اتضحت.
أخطر ما قد يحدث أن نجد أنفسنا في عالم مختلف دون إدراك لحقائقه الجديدة فتنزلق الأقدام إلى متاهات وحقول ألغام، وأن نجد أنفسنا في الوقت نفسه أمام إقليم مختلف دون تأهب للفرص المتاحة والأخطار المحتملة.
في تعقيدات الأزمة الأوكرانية تعارضت الحسابات والمصالح على نحو لم يكن ممكناً معه تجنب الانزلاق إلى حرب واسعة، لكنها محكومة، ولا هو ممكن لأي طرف في العالم أن يتجاهل تداعياتها على مصالحه وأمنه.
أولاً: حسابات الأمن الروسي، فلم يكن ممكناً أن تتقبل تمركزاً ل«حلف الناتو» عند حدودها، ولا أن تنصب الصواريخ المتقدمة فيها، ولا أن تمتلك كييف قنابل نووية تكتيكية استناداً إلى الخبرة التقنية للاتحاد السوفييتي السابق، على ما أوضح فلاديمير بوتين، في آخر خطاب عام قبل بدء العمليات العسكرية.
في ذلك الخطاب تحدث بإسهاب عن الخديعة التي تعرضت لها بلاده منذ عام 1990؛ حيث «وعدنا عندما كانت قضية الوحدة الألمانية قيد المناقشة أنه لن يكون هناك تمدد للناتو، وأن تمركزه العسكري لن يتغير بمقدار بوصة واحدة شرقاً».
وفق بوتين، فقد تنكر الغرب لكل الوعود والضمانات التي قطعها على نفسه.
ثانياً: الحساب الاستراتيجي الأمريكي ودواعيه في الإبقاء على مقومات النظام العالمي المتهالك.
أثارت واشنطن المخاوف، بعضها لها أساس، حاولت أن ترمم تصدع التحالف الغربي بالدعايات التي أخذت شكلاً هستيرياً ضد الغزو المحتمل دون أن تفعل شيئاً لتطمين الروس وفق الاتفاقيات الموقعة.
ثالثاً: حسابات الأمن الأوروبي؛ حيث يميل القادة الأوروبيون بما يشبه الإقرار الجماعي إلى أنه يتقرر في أوكرانيا.
التساؤلات الكبرى سوف تطرح نفسها إثر صمت المدافع. ما مفهوم الأمن الأوروبي؟.. من العدو في عالم متغير؟.. وهل يمكن التعويل على «حلف الناتو» في حفظ أمن القارة أم أن زمنه انقضى وحان وقت البحث في منظومة أمنية بعيداً عن الولايات المتحدة- على ما اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذات مرة؟
رابعاً: تساؤلات أخرى على ذات القدر من الخطورة تخص الصين، بمواردها الاقتصادية وطاقتها العسكرية، أهمها: متى تعلن بناء تحالف سياسي واقتصادي وعسكري مع الدب الروسي يناهض حلف الناتو؟
الصين «تتفهم الأسباب الروسية» في الأزمة الأوكرانية، لكنها تؤكد احترامها في الوقت نفسه ل«سيادة الدول». المعنى أن فكرة التحالف الصيني الروسي سوف تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تقف على أرض.
خامساً: القضايا الأمنية والاستراتيجية التي قد تطرح نفسها على أزمات الإقليم، احتمالات تفاقمها وفرص تسويتها.
باستثناء ثلاثة لاعبين إقليميين أساسيين، تركيا وإيران وإسرائيل، مالت أغلب دول الإقليم إلى تجنب إبداء آراء قاطعة، أو الاكتفاء بعبارات دبلوماسية عامة انتظاراً لما قد تأتي به الحوادث.
بحكم عضويتها في «حلف الناتو» اصطفت تركيا معه، تبنت مقولاته ومواقفه، لكنها حاولت في الوقت نفسه لعب دور الوسيط مع روسيا .
إيران اصطفت مع حليفها الروسي، برهان أن تكون طرفاً مستقبلياً في التحالف المتوقع بين موسكو وبكين.
وإسرائيل مكانها معروف مسبقاً، علاقاتها تاريخية واستراتيجية ممتدة مع الغرب ونوافذها مفتوحة على التفاهم مع موسكو بملفات عديدة أهمها الملف السوري، لكنها تعرضت لصدمة غير متوقعة عندما أشارت إلى معارضتها ضم أراضي دولة أخرى بقوة السلاح.. لم يتورع الروس عن تذكيرهم ب«الجولان» السوري المحتل.