عبدالله السناوي يكتب:
هيكل وشيخ الأقصى ورسالة عمرها 15 عاما!
من اقتحام بعد آخر ومواجهة تلو أخرى تتبدى الحقيقة الأساسية فى الحرب على المسجد الأقصى، أن قضيته رهن بما يقدمه الفلسطينيون من تضحيات فى الدفاع عنه، وحدهم تقريبا وبالصدور العارية تماما.
بقوة الصور فإننا أمام شبان عزل يتصدون بالتنادى العام لمنع اقتحام الأقصى من جماعات المستوطنين فى حماية الأمن الإسرائيلى، استباحته بالكامل بممارسة طقوس تلمودية وتقديم قرابين داخله، دون إسناد سياسى يستحق النظر فيه من سلطة فلسطينية، أو من أى نظام عربى.
إذا لم تكن هناك إرادة مقاومة من داخل القدس المحتلة تتصدى لحرمة المسجد وباحاته بقصد تقسيمه زمانيا ومكانيا فإن أسوأ السيناريوهات حادثة لا محالة.
الداخل الفلسطينى هو مفتاح الموقف فى الصراع على مستقبل الأقصى.
كان ذلك فحوى رسالة كتبها الأستاذ «محمد حسنين هيكل» عام (2007) إلى شيخ الأقصى «رائد صلاح».
فى شتاء ذلك العام وقف الرجل وحيدا فى مواجهة الجرافات الإسرائيلية، اعتقلوه وهو يحاول أن يوقفها عن عمليات الهدم التى تجرى من حول المسجد الأقصى. ثم أفرجوا عنه مؤقتا، وأنذروه بعدم محاولة الاعتراض، أو التظاهر، أو الاقتراب من محيط المسجد، لكنه لم يتوقف عن العمل من أجل قضية وهبها وقته كله وكرس من أجلها مؤسسة تحمل اسم المسجد الأقصى والدفاع عنه، فأدخل المعتقلات مرة بعد أخرى.
فى ذروة المخاوف من هدم المسجد الأقصى دعا الشيخ «رمزنا الإعلامى والسياسى الكبير محمد حسنين هيكل» أن يعقد مؤتمرا صحفيا لوضع استراتيجية إعلامية لنصرة القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك تتواصل على مدى سنوات مقبلة.
لم تكن تلك الرسالة الأولى غير أنها ــ هذه المرة ــ بدت أكثر تحديدا فيما تدعو إليه من مواقف وأدوار لنصرة المسجد المبارك.
الرسالة الأولى كتبها الشيخ بخط يده فى خريف (٢٠٠٦) مصحوبة بهدية معنوية ذات صلة بمضمون الرسالة ــ زجاجة زيت مستخلص من أشجار زيتون فى باحة المسجد الأقصى.
فى رسالته المكتوبة أخذ يشرح ــ بما لديه من مستندات وخرائط ــ الأخطار التى تحيق بالمسجد الأقصى وتهدد بانهياره.
وقد شاءت الظروف أن أكون طرفا مباشرا فى الرسائل المتبادلة، التى جرى نشرها على صفحات جريدة «العربى».
عندما اتسعت مخاوف شيخ الأقصى، وبدأ يحذر من انهيار مفاجئ فى بنيانه جراء حفريات اقتربت من عمقه تحت المنطقة المسماة الكأس بين المسجد وقبة الصخرة يليها هدم غرفتين تقعان فى حائط البراق.
بدا أمامه أن الوقت حان ليقول «الأستاذ» كلمته.
«إن قضية الأقصى لا تحتاج إلى دعوة، فخطورتها مؤكدة ونصرته واجبة».
و«أنا مستعد لبذل أقصى ما أستطيع من جهد إعلامى وسياسى لنصرة المسجد الأقصى».
«إن الأقصى معنى كبير قبل أن يكون معلما خالدا بالنسبة لنا جميعا، فهو الحسنيين معا، إذا جازت الاستعارة، فهو تاريخ القداسة، وهو قداسة التاريخ، الأقصى إلى جانب ذلك كله ماثل دائما فى حياتى، فالله وحده يعلم عدد المرات التى جئت فيها إلى رحابه قادما عن طريق الخان الأحمر، وهو الطريق المؤدى من أريحا إلى القدس داخلا من باب رأس العامود، ماشيا من حوارى خان الزيت على الطريق الواصل إليه، مصليا فيه وماشيا منه إلى كنيسة القيامة داعيا، ثم خارجا لكى أغطى وقائع الأحداث من سنة ١٩٤٧ إلى سنة ١٩٤٨ ــ وكاتبا فى كل ما نشرت بأنها النار فوق الأرض المقدسة، غير أن القضية تتعدى أى شخص وأى مؤتمرات صحفية قد يعقدها، فللكلمات طاقتها وحدودها، التى لا تستطيع تجاوزها إذا لم تستند إلى موقف سياسى شعبى واسع من داخل الأرض المحتلة نفسها، فقد شاءت الأقدار أن يتحملوا هم ــ قبل غيرهم وفى مقدمة الصفوف ــ عبء الدفاع عن المسجد الأقصى».
«إننا نتحدث من الخارج، والمعركة فى الداخل، وقد كان مشهد اعتقال الشيخ رائد صلاح بالصلابة الإنسانية التى بدا عليها ملحميا ومؤثرا بأكثر مما تحتمله الكلمات والمؤتمرات الصحفية، أيا كانت القيمة المنسوبة لأصحابها».
«بدا رائد صلاح فى هذا المشهد الملحمى كمن يواجه أمواجا عاتية ويبحر فى مواجهتها مندفعا إلى الأمام، وهذه ملحمة إنسانية بليغة بصورها ودلالاتها، وهى ملهمة بأكثر من كلام عاجز من نظام عربى استنفد طاقته على البقاء، وهى مقنعة بوسائلها ورسائلها من أى كلام آخر».
هكذا كان رده على رسالة الشيخ «رائد».
قلت: «لكن الصور الفلسطينية تتداخل وتختلط، وقد تحدث تشويشا على ملحمة ما جرى ذات صباح أمام المسجد الأقصى».
قال: «أنت تتحدث عن صور فوضى السلاح فى غزة، وهى مؤلمة فعلا وتنتقص من القضية الفلسطينية، ولكن تلك الصور لا تطغى على صورة الشيخ رائد صلاح مندفعا بين الجرافات الإسرائيلية وحشود أمنها، فلا صورة تطغى على أخرى، وبعض الصور عابرة وبعضها الآخر يبقى أطول من أعمار أصحابها، والصور الملحمية بالذات تخلد فى الذاكرة العامة وتحرك الهمم وتلهم المقاومة، التى هى أملنا الوحيد فى نصرة المسجد الأقصى وفى إبقاء جذوة القضية الفلسطينية على قيد الحياة».
كانت تلك رسالة فى وقت صعب، فـ«القضية لا يلخصها نداء ولا يفى بمهامها رجل من خارج ساحة الصراع فى فلسطين أيا كان صوته مسموعا».
وكانت قد مضت سنوات طويلة وقاسية على اليوم الذى خط فيه باسم الرئيس «جمال عبدالناصر» مطلع ستينيات القرن الماضى فى رسالة شهيرة إلى الرئيس الأمريكى «جون كينيدى»: «من لا يملك أعطى وعدا لمن لا يستحق.. ثم استطاع الاثنان من لا يملك ومن لا يستحق بالقوة والخديعة أن يسلبا صاحب الحق الشرعى حقه فيما يملك وفيما يستحق».
استقرت تلك العبارة فى ذاكرة التاريخ العربى كله.
بدت إشارة بليغة لوعد «بلفور»، الذى مهد لتأسيس الدولة العبرية فى فلسطين المحتلة.
ما بين وعد «بلفور» وتهويد ما تبقى من أراضٍ فلسطينية محتلة بدا متأكدا أنه إذا لم يتنبه العرب والفلسطينيون إلى ما قد يتعرضون له من نكبات جديدة فإنها واقعة لا محالة.
بعد (15) عاما فإن المعنى نفسه، فى ظروف أكثر قسوة، يؤكد من جديد الحقيقة الكبرى فى الحرب على الأقصى: «شاءت الأقدار أن يتحملوا هم ــ قبل غيرهم وفى مقدمة الصفوف ــ عبء الدفاع عن المسجد الأقصى».