ابراهيم مؤمن يكتب لـ(اليوم الثامن):
القبض على الجرافيتون «التجربة الثالثة لكاجيتا» ج2
سأل كاجيتا: «والآن يا سادة سنقوم بتحويل الطاقة إلى مادة.»
نظروا له بدهشة، بيد أن أقلهم دهشة ناكامورا، حيث علم مراده، وفور أن فكر فيما يقصده كاجيتا فاقت دهشته دهشتهم جميعا، حيث قال: «الجرفيتونات العالقة في المغانط مجرد طاقة، ستحولها إلى مادة سيدي، كيف؟ الطاقة شيء غير مرئي، أما المادة فشيء مرئي نراها بأعيننا (يشير بإبهاميه إلى كلتا عينيه) ونتلمسه بأيدينا (يمرر كلتا يديه في الهواء رأسيا وأنامله صوب السماء)، فكيف تحول غير المرئي إلى مرئي؟ كيف؟»
قال كاجيتا: «لو تعلم عدد الجرافيتونات التي علقت بالمغانط لما قلت هذا القول يا ناكامورا، إنها جرافيتونات لا حصر لها.»
أدار عينيه على فريقه، ثم قال: «والآن علينا اتباع المكر والخديعة، لذلك اذهب يا ناكامورا ووصل شبكة الحوسبة بالمصادم حتى لا يرتابوا في أمر ما نفعل.»
قال أحد فريقه: «كيف سيدي؟ سيعلمون بما نفعله.»
قطب كاجيتا باستياء وقال: «لن نجري أي ارتطامات على المصادم في الخطوات القادمة، والآن بدل أن تتكلم بهذا الهراء أحضر لي جهاز الليزر.»
قال الباحث: «تقصد الليزر الذي كان يمسك به ناكامورا منذ بضع ساعات؟»
نظر إليه كاجيتا بحنق، ثم ما لبث أن هرول الباحث نحو الليزر وأحضره له.
قال كاجيتا: «أيها السادة، الآن سنحتاج إلى ألبرت أينشتاين، اذهبوا وأحضروه.»
نظر بعضهم لبعض، وهم في قمة الدهشة، بل ما اعتادوا أن يعصوا له أمرا؛ لذلك كان الواحد منهم ينظر إلى زملائه لواذا لعله يجيبه بما يطلب فيخرج هو من هذا المأزق.
أدار كاجيتا عينيه عليهم ثم قهقه -رافعا رأسه إلى أعلى قليلا- بسبب دهشتهم.
سكت فجأة، وساد الصمت لحظات، ثم تكلم وقد ارتسم على وجهه ملامح الضجر والانتقام: «ألا تدرون أين تجدون هذا الملعون الآن؟ والملعون الآخر الذي قتل البشرية؛ ذاك الروبرت أوبنهايمر الذي قتل أجدادي؛ بل قتل البشرية جميعا.»
قال ناكامورا: «وما علاقة أينشتاين بقنبلتي هيروشيما وناجازاكي سيدي كاجيتا؟»
أقبل إليه كاجيتا، فَلَهَدَه فِي صَدْرِه لَهْدَةً أوجعته، ثم قال: «ألم يكتب إلى الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه يجب على الولايات المتحدة تطوير القنبلة الذرية! وطوروها لتسقط على رءوسنا.»
وأشار بيده إليهم جميعا وهو يدعوهم إلى الانصراف بقوله: «هيا، هيا، انصرفوا أريدهما خلال 24 ساعة على الأكثر، أريدهما مكبلين بالسلاسل في الأيادي والأعناق، أريد أن تطرب أذني لرسف قيودهما، هيا.»
قال أحدهم متمتما: «سيدي كاجيتا أخبرنا أين هما وأنا أحضرهما لك حالا.»
قال كاجيتا: «في مختبر لوس ألاموس بمنهاتن يا حمار.»
عاد الصمت مرة أخرى، ولقد قال ناكامورا في نفسه: يبدو أن كاجيتا قد ذهب عقله.
أما كاجيتا فأراد أن يبث فيهم روح الوطنية والشغف بالعلم، لذلك قال: «هيا إلى المصادم، لنجري الارتطام على المصادم لنستحضر روحي هذين الملعونين.»
جن جنونهم، بل أغشي على أحدهم.
في هذه اللحظة فاجأه ناكامورا بما لا يخطر على بال أحد، حتى كاجيتا نفسه، حيث قال: «ما رأيك سيدي كاجيتا أن نجري الارتطام ونتمكن من فتح الثقب الأسود المجهري بطريقة ما ثم نعبر جسر أينشتاين، وتلتقي هناك بأجدادك الذين راحوا ضحية قنبلتي هيروشيما وناجازاكي؟»
فور أن انتهى ناكامورا من كلامه حتى خر على الكرسي صعقا، وظل صامتا لحظات يفكر فيها في كلام ناكامورا، بعدها بدأت الدموع تفر من محجري عينيه وتخضل صدره، وقال: «مستحيل يا ناكامورا أن نراهم أحياء في بعد آخر بعبور ثقب أسود مجهري، لكن ما يبرأ سقمي ويشفي غليلي أني سأنتقم منهم وأقتّل أولئك الملاعين شر قتلة (يقصد أمريكا).»
نهض كاجيتا وتماسك، ثم قال مستاء: «للأسف سأضطر لأن أجري تجربة قائمة على معادلة آينشتاين التي تحدّد العلاقة بين الكتلة والطاقة وسرعة الضوء.»
قال ناكامورا: «المعادلة هي: الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء، لكن المعادلة يراد بها تحويل الكتلة إلى طاقة كالقنبلة الذرية، فهل من الممكن تحويل الطاقة إلى كتلة؟»
أجاب كاجيتا: «الجرافيتونات عديمة الكتلة لكنّها تحمل طاقة، فلو استطعنا تحويل الطاقة إلى كتلة فقد أنجزنا عملا عجز عنه الفيزيائيّون على مرّ عقود طِوال، الفيزيائيّون استطاعوا منذ سنين تحويل فوتونات الضوء التي تحمل طاقة إلى مادة، فعندما حدث تصادم بين الفوتونات عن طريق الليزر تمّ إنتاج أزواج من الإلكترونات والبوزيترونات وهم عبارة عن مادة، أمّا مسألة تحويل الجرافيتونات التي تحمل طاقة إلى مادة فهذا هو التحدّي الأكبر لنا وعلينا بعمل التجارب لإتمام المهمة.»
قال ناكامورا همسا: والآن سيجري كاجيتا تصادما بين الجرافيتونات العالقة بالمغانط الأحادية، يا له من عبقري!
سلط كاجيتا بالفعل الليزر الخارق على الجرافيتونات العالقة في مجال المغناطيس الأحادي القطب، فلم تنفصل عن المغانط.
انتفض جسد كاجيتا، وكاد لا يتمالك نفسه من الهلع. أعاد تسليط الليزر وجسده يرتجف ويده اليسرى يمسك به قلبه بعدما أصابه ألم فيه، فلم تنفصل أيضا الجرافيتونات العالقة.
أعاد وكرر، وزاد جسده ارتجافا.
قال كاجيتا صارخا: «لازم تنفصل، لازم، أيتها المغانط الملعونة أتركي لي أصدقائي.»
وظل يهذي ويتمتم حتى خر على الكرسي منهدا.
نظر بعضهم إلى بعض وكاد الألم يعتصر قلوبهم. أما ناكامورا فهب منتفضا وهرول إلى الليزر وكرر ما فعله كاجيتا. لكن للأسف ما زالت
الجرافيتونات عالقة.
قال ناكامورا: «إن لم تنفصل الجرافيتونات فلن نتمكن من صناعة قنابل الثقوب السوداء.»
مرت لحظات، بعدها تصارعت دقات قلب كاجيتا، ثم أمسك بقلبه وصرخ ألما، ثم ما لبث أن أغشي عليه، دنوا منه وحملوه في أحد مصاعد المختبر قاصدين أحد أطباء المصادم القاطن في أحد المباني الكائنة فوق المصادم.
وصل جاك أخيرا، على مدار الرحلة وهو يفكر في أمرين اثنين لا ثالث لهما، الأول هو رجاؤه بالشفاء العاجل لفهمان، أما الآخر فإدراك كاجيتا قبل أن يتمكن من صنع قنابل الثقوب السوداء فيركع العالم كله تحت أقدام اليابان، وتطرق بفكره بعيدا حيث قال: وما المانع أن ينتقم كاجيتا من دولتي لو امتلك هذه القنابل؟ ما المانع أن يُعاد التاريخ القديم كله عندما يحدث تغيير في موازين القوى العالمية؟
وقال مستدركا: فالدولة عندما تضعف وتزول حضارتها تظهر جميع مثالبها التاريخية وتطفو على السطح بعد أن كانت غريقة في بحر لجي، بل وتهبط محاسنها إلى القاع وبذلك يظهر فيها كل سوء، ويحدث العكس مع الدولة التي تزدهر حضارتها بعد تخلفها.
صادف لحظة دخوله نفس اللحظة التي كان فريق كاجيتا يحملونه إلى الطبيب.
فسأل ناكامورا: «ماذا حدث لعالمنا الجليل يا ناكامورا؟»
أجابه بوجه أصفر وبأنفس متلاحقة: «لقد كاد الثقب الأسود أن يلتهمه لولا أن أمسكنا بيده وجذبناه حتى تلاشى الثقب.»
وكذب عليه ناكامورا، فهو يعلم أن جاك لو علم بنجاحهم في القبض على الجرافيتونات ربما حدث ما لا يحمد عقباه لهم.
ظل ينظر جاك إلى كاجيتا المحمول على الأكتاف بعد أن اجتازوه وولوا. قال: أنت تكذب يا ناكامورا، ولقد أصيب أستاذكم الملعون لأنه أخفق في شيء كبير وهو يمارس التجارب على المصادم، على كل حال أحمد الرب أنه لم ينجح في صناعة القنابل.
انتبه جاك لنفسه، وقال: فهمان، فهمان.
وهرول مسرعا نحو غرفة العناية المركزة بمباني المصادم. فلما وصل سأل في الاستقبال عن فهمان فقيل له أنه في غيبوبة منذ ثلاثة أيام.
انتظر ودمعه لا ينقطع من الانهمار. وقع نظره على صحيفة بيد الممرضة التي بالخارج، فخطفها منها في غرابة شديدة، لأنه لمح خبرا عن فهمان.
الخبر: جاك الولايات المتحدة الأمريكية بمصر.
أسفل الخبر يتساءل المحرر: هل يا ترى زيارة لصديقه أم أنه اتخذ زيارة صديقه حجة لكي يجري تجارب على مصادم الوادي الجديد فيحصل لدولته على سلاح يقضي به على أسطورتي القنابل النووية والهيدروجينية؟
امتعض جاك وقال غاضبا بصوت مسموع: السلام هو مرادي أيها السفلة.
قلب الصحيفة فقرأ خبرا آخر: هل تزول الحضارة المصرية بموت الفتى فهمان المصري؟
انهمرت دموعه ثانية على إثر هذا الخبر بعدما قاومها غضبه منذ لحظات. قرأ من ضمن تفاصيل الخبر: الفتى في العناية المركزة منذ ثلاثة أيام، فهل مات والإدارة المصرية لا تريد إعلان خبر وفاته؟
حق لمصر أن تصدم وألا تمتلك الشجاعة لإعلان خبر وفاته، حق لمصر أن تحزن وتقيم حدادا أبديا إذا مات هذا الفتى.
وفجأة وهو يقرأ إذ خرج أحد الأطباء مسرعا وهو يطلب أكسجين. فأسرع إليه جاك وهو متفجع.
قال جاك: «طمأني يا دكتور على فهمان.»
قال الطبيب: «أخشى أن يموت، حالة صديقك هذه عجيبة، توقف القلب منا بضع مرات ثم يعود وينبض من جديد.»
قالها الطبيب وأخذ الأكسجين ودخل سريعا. انتفض جسد جاك وفي لحظة انهار فيها تمام الانهيار وهو يقول: أنا الوحيد الذي أعرف سبب هذه المعجزة، تموت وتحيى تموت وتحيى، رباه كيف له أن يمتلك كل هذه العزيمة في حب البقاء؟ أرغبتك في إنقاذ العالم من الشياطين استطاعت أن تحييك بعد موتك؟ أيها الرب ألطف به.
وفي حجرة أخرى (الأولى لفهمان) يرقد كاجيتا طريحا على سرير العناية المركزة -فور أن وصل به فريقه- بعد أن صُدم في عدم قدرة الليزر في تحرير الجرفيتونات العالقة من أجل تحويلها فيما بعد إلى مادة من أجل صناعة قنابل الثقوب السوداء.
ينتظره بالخارج ناكامورا يتلو صلواته ويدعو لشفائه. وقال في نفسه: أرجو أن تحيى يا كاجيتا كي أحقق هدفي، فهدفي هو السيطرة على العالم ولا يكون لهذا الكون ربا سواي.
وآخر يعض في أظافره بأسنانه، ويده لا تكاد تثبت على حال بسبب رعشة كاملة تكهرب كل جسده وقال: يا ليتني أرى تلك المعجزة الكونية على يديك يا معلمي يا أغلى الناس، يا سيدي كاجيتا. قالها وانفجر في البكاء.
نظر إليه ناكامورا وقال في نفسه سخرية منه وغضبا: تراك تريد أن تسيطر على العالم مثلي يا عاضّ الأظافر.
أما كاجيتا فطريح على طاولة غرفة العناية المركزة، يفحصون قلبه، قال أحد الأطباء: «إنه مصاب بذبحة صدرية باغتته فجأة، فشراينه سليمة وقد ضاقت فجأة.»
قال طبيب آخر: «تقصد أنها ذبحة صدرية نجمت عن تأثير معنوي خارجي؟»
أجابه بنعم.
أما كاجيتا فله شأن آخر؛ فعقله الباطن في اللاوعي تمكن من التواصل مع كون الآلات، ذاك الكون الموجود في كوكب خلف ثقب سحابة أورط مباشرة.
سأله الآلي باستياء في اقتضاب: «أين إيريكا 300 أيها الأرضي؟»
أجابه كاجيتا: «لم تعلن ناسا للعالم بعد عن رحلة جاك حتى يأتيهم الدعم وينتهوا من إعدادات الرحلة، فالعالم قد ينقلب رأسا على عقب بسبب قنابل الثقوب السوداء.»
- «ما شأني أنا بقنابل الثقوب السوداء يا أحمق؟ اعمل على إعداد الرحلة حتى تأتينا إيريكا 300 وتكون دليلنا إليكم، فمنذ الأزل ونحن نحاول أن نأتيكم فلم نستطع، وبالتحديد يوم أن قتل قابيل أخاه هابيل.»
- «لك كل الشأن، فقدرتكم تفوق قدرة السلاح النووي ولكنها لن تستطيع أن تصمد أمام قنابل الثقوب السوداء، يجب علي أن أحوزها كي أمهد لكم الطريق لتعودوا بإيريكا لحكم الأرض.»
- «وما يمنعك أيها الأحمق؟»
قال له وهو يشعر بالعجز والشلل التامين: «الجرفيتونات عالقة بالمغانط ولا تنفك عنه، وبدونها يستحيل أن أتحصل على قنابل الثقوب السوداء.(لقد لاحظ أحد الأطباء في هذه اللحظة أن كاجيتا يهمس بشفتيه والدموع تنفجر من كلتا عينيه).»
- «استمع لعالمنا الفيزيائي يا كاجيتا.»
تقدم من الكون الآخر العالم الفيزيائي الكبير وكلمه بشأن الجرفيتونات. فقص عليه كاجيتا كل ملابسات التجارب.
قال له العالم الفيزيائي الآلي: «عليك بأسطوانة أحادية بشرط أن تكون مصنوعة من الياقوت المطعم بالنيوديميوم.»
وانتهى الحلم والتواصل اللاإرادي في البعد الكوني، ذاك التواصل الذي تغذية رغبة جامحة من لدن كاجيتا.
وأفاق كاجيتا، وأدار عينيه على الملتفون حوله من الأطباء يلتفون حوله.
نهض كأنّ ما به شيء، وانطلق مستندا على الجدار.
أمسكه الأطباء فنهرهم، وظل يصرخ على ناكامورا.
سمعه ناكامورا من الخارج، فظن أنه يستغيث، فضرب الباب ودخل عنوة.
وجد كاجيتا بجانب الجدار والأطباء يحاولون استعادته على الطاولة بيد أنه رفض.
نهرهم ناكامورا بقوله: «دعوه أيها الحمقى، إنه بصحة جيدة.»
قال كاجيتا: «خذني من هنا يا ناكامورا.»
فكر ناكامورا قليلا حيث قال في نفسه: يبدو أنك حصلت على طريقة تحرر بها الجرفيتونات العالقة. لا بأس لا يعنيني صحتك أيها الأحمق المهم أن تبتكر قنابل الثقوب السوداء ثم تودع الحياة لأنك إن لم تودعها فسأجبرك على توديعها بيدي.
سحبه ناكامورا من يده بعدما نهرهم جميعا.
قالوا له: «حالته خطيرة وقد يموت، أنت المسئول عما قد يحدث له.»
قال كاجيتا: «أنا المسئول عن نفسي، فدعوني.»
وأخذه ناكامورا، حتى إذا عبر الباب حملوه على الأكتاف.
قال كاجيتا: «امضوا بي إلى المختبر.»
نظر إلى عاضّ أظافره الذي كاد ينزعها كلها غيظا وحسرة على معلمه. ودعاه للاقتراب وهمس في أذنه بأن يحضر له أسطوانة مصنوعة من الياقوت المطعم بالنيوديميوم، وبيّن له كاجيتا أبعادها ومواصفاتها بالتحديد.
تنويه: يتبقى لنا الجزء الثالث من القبض على الجرافيتونات.