حازم الأمين يكتب:
بحثاً عن القناص الذي قتل شيرين أبو عاقلة
لم يعد من مجال للشك في أن قناصاً من الجيش الإسرائيلي قتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة. تحقيقات أجرتها محطة "CNN" وصحيفتي "واشنطن بوست" و"هآرتس"، بالإضافة إلى قناة الجزيرة ومنظمة بيتسليم، كلها قطعت كل الشكوك. رصاصة واحدة أصابت عنق شيرين في المسافة الصغيرة بين السترة الواقية وبين الخوذة. القناص أخذ وقته في التسديد والمسافة التي كانت تفصله عن ضحيته لا تزيد عن 180 متراً، وعبارة "صحافة" كانت ظاهرة على السترة الواقية، وهي كانت بمتناول عين القناص ومنظار بندقيته التي حسمت التحقيقات كلها أنها من النوع الذي يحمله جنود الجيش الإسرائيلي.
وحده "جيش الدفاع الإسرائيلي" لم يحسم بعد أن قناصاً منه قتل أبو عاقلة. وهو فعل ذلك مستعيناً بصمت دولي على الجريمة، فالإدانات اقتصرت على الواقعة من دون مضمونها السياسي. قتل شيرين حدث تقني وليس امتداداً لممارسة. هذا ما أوحت به معظم الإدانات، في وقت تشير التحقيقات إلى فعل وإلى تصميم على الفعل، وتشير إلى رصاصة واحدة أصابت المسافة القصيرة غير المحمية من جسم الضحية.
لم يترتب على الجريمة أي ثمن سياسي. نحن حيال صحفية قتلت عن عمد، فأين هذه الجريمة من جريمة مشابهة تمثلت بقتل عناصر من المخابرات السعودية الصحفي جمال خاشقجي. قد يكون الفارق باختفاء جثة الأخير وبترجيح تقطيعها وتذويبها بالأسيد. لكنه فارق، وان كان رهيباً، لا يبرر التفاوت بالأثمان السياسية التي نتجت عن الجريمتين.
قتل الخاشقجي أفضى إلى تحميل النظام السعودي المسؤولية عنها، وترافق مع إجراءات كادت تصل إلى عقوبات وإلى قطع للعلاقات مع الحكومة السعودية، وهي إجراءات كانت زاجرة فعلاً، وانبنى عليها خطوات، صحيح أنها لم ترق إلى مستوى تحقيق العدالة، إلا أنها حاصرت الفاعلين وأربكت إداء النظام. أما في حالة أبو عاقلة فاقتصرت التحقيقات على مؤسسات إعلامية ومدنية، بالإضافة إلى تحقيق الجيش الإسرائيلي، أي الجهة المتهمة، ولم تذهب الإدانات إلى ما تنطوي عليه الجريمة، وإلى ارتباطها بالثقافة "الاستيطانية" التي تقف خلفها، ولم يذهب توزيع المسؤوليات إلى عناصر أخرى لمشهد أبو عاقلة قتيلة في جنين، المدينة المنتهكة بالاستيطان وبالحصار.
هذا التمييز في ردي الفعل يحرمنا نحن الذين طالبنا بالعدالة لجمال خاشقجي من طاقة كنا حسبنا أن وراءها قيماً نشترك فيها مع غيرنا ممن هالتهم جريمة إسطنبول، فالجريمتين يجب أن تأخذانا للبحث عما وراءهما، وإلى أن يبنى عليهما مواقف متوازية. القناص الذي أصاب عنق عاقلة وراءه جيش، وهو أطلق رصاصته في منطقة محتلة، وفي مساحة مستهدفة بالاستيطان، وهذه كلها توصيفات قانونية مصادق عليها من الأمم المتحدة. بمعنى أن الجريمة ليست مفصولة عما يجري في الضفة الغربية وفي القدس، وعن ممارسات الجيش الإسرائيلي، ولنا بما توثقه "هآرتس" يومياً على هذا الصعيد.
العدالة ليست فكرة، وتحولها إلى واقع هو شرط لا يستقيم مستقبل من دونه، ونحن في حالة شيرين أبو عاقلة أمام عناصر متوافرة لانعقاد لحظة عادلة. الحكومة الإسرائيلية يجب أن تكون هدفاً لنفس الضغوط التي تعرضت لها الحكومة السعودية. الوصول إلى القناص خطوة بالغة السهولة إذا ما وضع الجيش الإسرائيلي في موضع الاتهام السياسي. وحساسيتنا كصحفيين يجب أن تكون مضاعفة لجهة المطالبة بالعدالة لزميلة قتلت غيلة، وعلى نحو معلن، فنحن بذلك نكون جعلنا من مهمة القاتل أصعب عندما يحين موعد جريمته المقبلة.
الجيش في إسرائيل يتمتع بأعلى الحصانات. هو درة عين الدولة والمجتمع والأحزاب بيمينها ويسارها. المس به هو مساس بـ"وجود الدولة"، وأمام هذه الحقيقة، العدالة في حالة شيرين أمام استعصاء هائل. لكنها أيضاً فرصة للحد من الجريمة، حتى لو كانت محمية بحصانة.
غير ذلك سيواصل المرتكبون في هذه المنطقة البائسة ابتزاز العالم بحصانات متوازية، حصانات تجعل العدالة هدفاً مستحيلاً، ويتولى الابتزاز تشييد مزيد من الصروح للجريمة المتنقلة في أرجاء هذا الإقليم البائس.
وبالعودة إلى الجريمة نفسها، وإلى الضحية ووجهها، فحقيقة أن قتلها جرى عن مسافة قريبة تضعنا أمام سؤال للقاتل: أكان يعرفها؟ أكان تابع عملها؟ فللجريمة بعد شخصي أيضاً، وهو بعد يضعنا نحن زملاؤها وجهاً لوجه أمام احتمالات أن تلتقطنا عين قناص، وأننا في منظار هذا الأخير لسنا سيراً وحكايات ومسارات حياة، نحن مجرد كائنات تتحرك في منظار بندقيته. لقد شَطَبت وجهاً أيها القناص سيبقى يلاحقنا حتى آخر قصة نكتبها. الجيش الإسرائيلي لن يكشف عن هويتك، لكن صحفياً فلسطينياً سيفعلها ذات يوم.