إبراهيم بوغانمي يكتب:

رياح التغيير الإعلامي.. متى تهبّ على تونس

تونس

الفاصل الزمني القصير بين مساء الرابع عشر وصباح الخامس عشر من يناير عام 2011 كان كفيلا بأن يولّد الاستعداد لدى العديد من العاملين والمساهمين في الشأن الإعلامي في تونس لتبني نفس ثوري ستظهر آثاره لاحقا على المؤسسات الإعلامية التي شهدت تزايدا كبيرا في أعدادها، وأيضا تنوعا في سياساتها التحريرية.

انتهت الحفلة، وبدأت الأصوات تعلو لتندد بما آل إليه الوضع الإعلامي في تونس. بل إن البعض يعتقد أن الطريقة التي تم فيها التعامل مع الإعلام خلال حكم الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي، الفترة التي يصفها البعض بالسلطوية، كانت أفضل مما هي عليه زمن الانتقال الديمقراطي. وهي مفارقة عجيبة فعلا.

دون محاكمات أو إدانات مباشرة، حصل الكثير من التجاوزات في المشهد الإعلامي الذي يبدو كأنه تلقى “صدمة” أفقدته توازنه بفعل تداخل التشريعات والقوانين التي امتزج فيها القديم بالحديث، والمحلي بالمستورد. ودخل على الخط ناشطون إعلاميون جدد لم يتجانسوا كثيرا مع “أبناء الدار”. وتمزق المشهد الإعلامي في سياق استقطاب ثنائي حاد قسّم التونسيين كما قسّم المشهد الإعلامي خاصة في السنوات الأولى التي تلت ما عرف بالثورة التونسية.

 على الدولة التدخل من خلال ضبط سياسة واضحة بشأن مؤسسات الإعلام العمومي الذي، والحق يقال، ما يزال متأرجحا بين الحكومي والعمومي

ولئن استبشر الكثير من المراقبين والمتابعين للمشهد الإعلامي بتنامي عدد المؤسسات الإعلامية وتنوع خطاباتها، وهي التي كانت في ما مضى محدودة العدد وأحادية الخطاب، فإنه تبين في ما بعد أن تلك التعددية مغشوشة وهي أقرب إلى التعدد منها إلى التعددية.

المؤسسات الإعلامية اليوم في تونس هي رقم وليست مضمونا أو محتوى متنوعا. فأغلب الإذاعات تتبنى نموذج إذاعة موزاييك الخاصة، ومعظم المحطات التلفزيونية ترغب في محاكاة قناة الحوار التونسي. مع أن النموذجين ليسا مثالييْن من الناحية الإعلامية رغم نجاحهما تجاريا. وتلك مسألة أخرى.

الوضع، كما هو حاليا، يتطلب إعادة هيكلة “الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري” المشرفة على تنظيم المشهد الإذاعي والتلفزيوني لتتمكن من تدارك فوضى البدايات وتراجع المعايير المتبعة في إسناد تراخيص البث، وإجراء متابعة عن قرب لأداء المؤسسات القائمة، خاصة تلك التي تسلل إليها المال الفاسد، إما اختيارا أو تحت الضغط، بفعل ضغوطات السوق.

الدولة التي انهارت أو اختُرقت معظم مؤسساتها بعد الثورة بدت مستقيلة من التدخل في الشأن الإعلامي، ربما لدرء شبهة الدكتاتورية السابقة أو لانشغالها بصراعات سياسية وأيديولوجية متشعبة، هذه الدولة مطالبة اليوم بالتدخل السريع لإنقاذ منظومة الإعلام العمومي الذي يُعتبر قاطرة الانتقال الإعلامي المعطل في تونس. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن معركة إصلاح الإعلام العمومي في البلاد هي “أم المعارك”، ومن دونها سنخسر المعارك الإعلامية الأخرى.

على الدولة التدخل من خلال ضبط سياسة واضحة بشأن مؤسسات الإعلام العمومي الذي، والحق يقال، ما يزال متأرجحا بين الحكومي والعمومي. فهو ما يزال في مرحلة لم تكتمل ملامحها بعد. وعلى الدولة تعزيز القدرات التنافسية لتلك المؤسسات المتكونة من قناتين تلفزيونيتين و10 إذاعات ووكالة أنباء وصحيفتين.

  دون محاكمات أو إدانات مباشرة، حصل الكثير من التجاوزات في المشهد الإعلامي الذي يبدو كأنه تلقى "صدمة" أفقدته توازنه

وتحضرني هنا التجربة اليونانية عندما أغلقت الحكومة في عام 2013 المجموعة العامة للتلفزيون والإذاعة، التي تضم خمس شبكات تلفزيونية ومحطات إذاعية رسمية، وذلك غداة تفاقم أزمة الديون التي بدأت في التفاقم منذ سنة 2010. ورغم تصدي أحزاب المعارضة والهياكل النقابية للقرار الحكومي آنذاك فإن الحكومة اليونانية أبدت تمسكا بقرارها الذي وصفته بـ”المقدس” كأحد الحلول لتجاوز أزمة الديون حيث تكلف المجموعة الإعلامية المذكورة الحكومة اليونانية كتلة أجور عالية. وهي وضعية لا تبتعد كثيرا عن وضعية مؤسستيْ الإذاعة والتلفزيون العموميتين في تونس.

ثقل كتلة الأجور وتضخم الموارد البشرية والمزايدات النقابية والاختراق السياسي، جميعها مظاهر مشتركة بين حالتي الإعلام التونسي بعد الثورة والإعلام العمومي اليوناني في فترة أزمة الديون. ولعل ذلك ما يرجح فكرة استنساخ الحل اليوناني. النسف ثم إعادة البناء، خاصة إذا شخصنا حالة مؤسسات الإعلام العمومي التونسية بأنها أسوأ اليوم مما كانت عليه حالة مؤسسات الإعلام العمومي اليوناني آنذاك، بالإضافة إلى مشاكل تكلس القوانين والأنظمة الأساسية والتصدي لمحاولات الإصلاح والتطوير وما انجر عنها في مناسبات عديدة من حالات احتقان مهني زادت في تعطيل عجلة الإنتاج.

الحل اليوناني هو حل موجع ولكننا أحيانا نضطر إلى تطبيق قاعدة “آخر الطب البتر” أو الكيّ.