د. صبحي غندور يكتب:

ضعف المناعة العربية

لندن

هناك الآن حالة “تكيّف” عربي مع بعض المشاريع الأجنبية ومع ظواهر انقسامية خطيرة تنخر الجسم العربي، كما هو الحال أيضًا مع واقع التدخّل الأجنبي، بل حتّى على مستوى الحركات السياسية ذات الصبغة الدينية أو القومية، فقد انتقلت شعارات بعضها من عموميات “الأمّة” إلى خصوصيات “المذاهب”، كما انتقل بعض “التيّار الديني” في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلّح، وما يجلبه هذا الأسلوب من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معًا.
وهناك في الرسالات السماوية حكمةٌ هامّة من سيرة آدم عليه السلام، فإغواء الشيطان له ولحوّاء كان “مؤامرة خارجية”، لكن ذلك لم يشفع لهما بألا يكون عليهما تحمّل المسؤولية وتلقّي العقاب. العرب يعيشون على أرض الرسالات السماوية ولم يتعلّموا هذا الدرس الهام بعد، رغم وجود شياطين صغرى وكبرى داخلهم ومن حولهم!
صحيحٌ أنّ هناك قوًى وأجهزة أمنية لقوى إقليمية ودولية عديدة تتحرّك في بلدان المنطقة لخدمة غاياتٍ سياسية خاصّة، لكن من غير الإنصاف تجاهل مسؤولية الذات العربية عمّا حدث ويحدث في عدّة أوطان عربية.
لكن رغم ما سبق ذكره من أهمّية عدم إعفاء النفس العربية عن أوضاعها الراهنة، فإنّ هناك أيضًا خصوصية كبيرة للعامل “الأجنبي” في التأزيم الأمني والسياسي لعدّة دول عربية، وفي مراحل زمنية مختلفة.
نعم، هناك عرب ومسلمون قاموا ويقومون الآن بخوض معارك لصالح “أهداف أجنبية”، عن قصدٍ أو بغير قصد، فهم عمليًّا يحقّقون ما يندرج في خانة “بعض المشاريع الإقليمية والدولية” للمنطقة من تقسيم طائفي ومذهبي وإثني يهدّد وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم جدرانًا وحواجز بين مواطني الوطن الواحد والأمّة الواحدة.
إنّ نقد الواقع العربي ورفض سلبياته هو المدخل الصحيح لبناء مستقبلٍ أفضل، لكنْ حين لا تحضر بمخيّلة الإنسان العربي صورة أحسن بديلة لواقعه، تكون النتيجة الحتمية عنده هي الشلل بالفكر وبالعمل وتسليمه بالواقع تحت أعذار اليأس والإحباط وتعذُّر وجود البديل!. وكذلك المشكلة هي كبرى حينما يكون هناك عمل، لكنّه عشوائي فقط من دون رؤية فكرية أو في غير الاتّجاه الصحيح!.
العرب هم الآن ضحيّة غياب التخطيط العربي الشامل، والمشروع العربي الواحد، مقابل وجود المخطّطات الأجنبية الشاملة. لكن يبقى السؤال الهام: أين هي عناصر قوّة المناعة في المجتمعات العربية؟!.
لقد كان من الإجحاف وصف العام 2011 بأنّه عام “الثورات العربية”. فالثورة تعني تغييرًا جذريًّا في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليست عملية تغيير أشخاص وحكومات فحسب. الثورة تعني أيضًا توفّر قيادة واضحة ورؤية فكرية – سياسية ناضجة لمرحلة ما بعد إسقاط النظام، الأمر الذي لم يتوفّر حتّى الآن في أيِّ بلدٍ عربي شهد أو يشهد حراكًا شعبيًّا من أجل التغيير.
أيضًا، تعبير “الثورة العربية” يوحي وكأنّ ما حدث في المنطقة العربية هو ثورةٌ واحدة موحّدة في الأساليب والقيادات والأهداف والظروف، وعلى أرضٍ واحدة وفي كيانٍ واحد، وهذا كلّه غير صحيح. فالمنطقة العربية هي أمَّة واحدة، لكنّها تقوم على 22 دولة وكيان، وأنظمة حكم مختلفة. فوحدة “الشارع العربي”، من الناحتين السياسية والعملية، هي غير متوفّرة بسبب هذا الواقع الانقسامي السائد لقرنٍ من الزمن تقريبًا، وبالتالي فإنّ “المشترك” كان حدوث انتفاضاتٍ شعبية عربية، لكن بقوى مختلفة وبظروف متباينة وبأساليب متناقضة أحيانًا. فما حدث من أسلوب تغيير سلمي في تونس ومصر لم يتكرّر في ليبيا أو سوريا مثلًا، ولا كانت أيضًا مواقف المؤسّسات العسكرية متشابهة أو متجانسة في البلدان التي شهدت هذه الانتفاضات الشعبية، كما أنّ التدخّل الإقليمي والدولي لم يكن حاصلًا في الحالتين التونسية والمصرية، بينما كان هذا التدخّل سافرًا في معظم الحالات العربية الأخرى.
وكان واضحًا، وما يزال، غياب المعيار العربي الواحد لتقييم هذه الانتفاضات الشعبية. فقد كان معيار البعض هو العامل السياسي المحلّي فقط، والذي يرتبط بالمسألة الديمقراطية ومحاربة الفساد والاستبداد، بينما كان المعيار لدى البعض الآخر هو أيضًا مدى قدرة هذه الانتفاضات الشعبية على البقاء متحرّرة من التدخّل الأجنبي والمشاريع الدولية لمستقبل المنطقة، وعلى تأثير هذه الانتفاضات سلبًا أو إيجابًا على القضية الفلسطينية.
أيضًا، اختلفت المعايير العربية ممّا حدث حتّى الآن في المنطقة، تبعًا للمواقع العقَدية الفكرية والسياسية، كما هي أيضًا في المعايير الدينية والمذهبية والإثنية عند من يعتبرونها مرجعيتهم لتحديد مواقفهم من أيّ شأنٍ أو أمر، حيث دعْم أو رفض التغيير في أيّ مكان ينطلق عندهم من هذه المعايير ومن المصالح الفئوية!.
لكن هذه المتغيّرات في السنوات الماضية حدثت وتحدث في مناخ تزداد فيه الطروحات الانقسامية في المجتمعات العربية، وتزامنت هذه الطروحات مع ممارساتٍ عُنفية تتناقض مع طبيعة الواقع الذي سبّب الانتفاضات الشعبية؛ حيث كانت المشكلة بين حاكمٍ ظالم وحكوماتٍ فاسدة من جهة، وبين مواطنين ومحكومين مظلومين، ينتمون لكلّ الطوائف والمذاهب والعقائد، من جهةٍ أخرى.
ولعلّ ما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ لا عن خطايا حكومات وأنظمة فقط، بل هو مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويّتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي والإثني، وبعدم الممانعة في الارتباط بقوًى ومشاريع أجنبية.
جسد الأمة العربية المعرّض الآن لكثير من “الفيروسات الأجنبية”، والمصاب بحالة ضعف المناعة، يحتاج بشدّة لإعادة الحيوية إليه، في ظلّ أوضاع عربية كانت تسير في العقود الخمسة الماضية من سيء إلى أسوأ، ومن هيمنة غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، بل باحتلال بعضها، كما حدث أميركيًّا في العراق، وإسرائيليًّا في لبنان وفلسطين، وغير ذلك على الأبواب الإفريقية والآسيوية للأمّة العربية التي بدأت أوطانها الكبرى بالتصدّع واحدةً تِلوَ الأخرى.
أيضًا، فإنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى جيلٍ عربي جديد، يستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية، جيل يرفض استخدام العنف المسلّح لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي في أوطانه العربية، جيل شبابي يجمع ولا يفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية…
فالمسألة هي ليست في رفع شعارات الديمقراطية فقط، بل هي في كيفيّة الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد، وبضمان أنّ طريق الديمقراطية لن يمرّ في تجزئة الكيانات، إن لم نقل في إخضاعها للسيطرة الأجنبية أولًا!.
هنا مخاطر غياب دور الفكر السليم في الانتفاضات الشعبية التي قادها جيل الشبابٍ، ومساوئ عدم الوضوح في ماهيّة “الأفكار” أو طبيعة “القيادات” التي وقفت خلف الحراك الذي قام به الشباب العربي في أكثر من وطن عربي. إذ لا يجوز أن يرضى هؤلاء الشباب أن تكون تضحياتهم هي لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة، تُعيد تكرار ما حدث في السابق في المنطقة العربية من تغييراتٍ كانت تحدث من خلال الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلّحة ثمّ تتحوّل إلى أسوأ ممّا كان قبلها من واقع!.
وحينما تعطي الحركات السياسية العربية الأولوية لتغيير أنظمة الحكم، فذلك يعني بالنسبة لها بناء أطر حزبية فئوية ثمّ صراعات سياسية يومية مع “الآخر” في المجتمع، ثمّ صراعات لاحقة داخلية على السلطة والمناصب.. بينما الأولوية يجب أن تكون لإصلاح المجتمع وما يتطلّبه ذلك من بناءٍ سليمٍ للدّعوة والدّعاة، ووجوب حسن الأسلوب في التّعامل مع “الآخر” بالوطن المشترك، واستخدام التأثير الإيجابي في النّاس من خلال العمل الثقافي والفكري والاجتماعي، البعيد عن الفئوية والانتماءات الضيقة والمصالح الخاصة.