أحمد شهاب يكتب:

الكويت: بناء مرجعية سياسية ووطنية

استمعت إلى خطاب السيد أحمد السعدون، والذي يرد فيه بالرفض على الأصوات التي اقترحت عليه أن يعتزل العمل البرلماني، ويكون في موقع المستشار السياسي لأتباعه.

والحق أن قرار النائب السابق السيد أحمد السعدون بالترشح للانتخابات القادمة أمر يخصه وحده ولا يمكننا أن ننازعه فيه، لاسيما وأنه اسم مرجح لرئاسة المجلس القادم، وإن كنا نتمنى أن يكتفي النائب السابق بمشاركته البرلمانية طوال السنوات الماضية، ويشرف اليوم على تأهيل جيل برلماني يسير على دربه ومنهجه وأفكاره.

والأمنية كذلك تسري على النائب السابق السيد عدنان عبدالصمد وغيرهما من المرشحين الأكفاء الذين أخذوا فرصا كافية في التمثيل النيابي، وآن الأوان أن يترجلوا عن صهوة العمل البرلماني وينتقلوا في أدوارهم السياسية إلى ما فوق البرلمان وما هو أكبر من التنافس على عضوية مجلس الأمة.

من الواضح أن حجم التردي في التجربة السياسية المحلية كبير جدا على الرغم من توفر أرضيات ازدهارها ونموها بشكل أكثر ثراء وتميزا، لكن من المؤسف أن مسار التطور السياسي في البلد صعب للغاية، وأن كل مظاهر التطور لا تعدو أن تكون شكلية ومراوغة.

يمكن إيجاز أسباب تردي التجربة السياسية في ثلاثة أسباب رئيسية:

الأول: عدم اقتناع الحكومات المتعاقبة بالديمقراطية، الأمر الذي يجعلها تلتف على مساراتها، وتعطل البرلمان عن أداء عمله على أكمل وجه، وتسعى بجهد لا يخلو من دهاء إلى إفشال الممارسة الديمقراطية، ما ينتهي إلى عرقلة بناء ثقافة سياسية سليمة.

أدعو الرموز السياسية المخضرمة، والقادرة على التنظير السياسي والفكري، إلى ترك التنافس الانتخابي، والزهد بالمقعد النيابي، والبقاء في دكة الشعب، وتوسعة مساحات وأطر العمل السياسي والإصلاحي، والثقة بوجود أجيال جديدة تحمل راية الإصلاح السياسي

الثاني: حصر العمل السياسي في دائرة الانتخابات ومجلس الأمة، حتى تم اختزال الأنشطة العامة من قبيل انتخابات الجمعيات التعاونية والمجلس البلدي والنقابات العمالية والاتحادات الطلابية وتعيين المحافظين والمختارين والقياديين وغيرها، كأداة وعتبة للوصول إلى البرلمان، ونزعت قيمتها كعمل سياسي أو وطني أو مهني.

الثالث: غياب الدور المرجعي للشخصيات السياسية، سواء كانوا آباء روحيين أو رعاة اجتماعيين أو مرشدين سياسيين، من الشخصيات القادرة على توفير مظلة سياسية ووطنية، تقوم بتوجيه وتقويم السلوك السياسي، وتحظى بمقبولية في جموعها.

وجود وفاعلية هذه الطبقة المرجعية يعد ضرورة لنمو وترشيد العمل السياسي المحلي، ومن أبرز شروطها أن تكون الشخصية فوق وخارج النزاعات اليومية التي تجري في الساحة المحلية، وأن تكون رؤيتها ومنظوراتها في معزل عن التأثر بالصراعات التي قد تندلع لأسباب هامشية، في مثل الخلافات التي تقع على هامش الانتخابات، أو التلاسن الذي يندلع بين التيارات المتنافسة أو غيرها.

إن إعادة الاعتبار لدور ومكانة الهيئات الاجتماعية خارج البرلمان، لا يمكن أن يتم إلا من خلال وجود شخصيات سياسية مؤثرة في القرار وفي التوازن السياسي من خارج قاعة عبدالله السالم، تعمد إلى العمل بالتوازي مع البرلمان، ولا يقل دورها وأثرها عنه.

هذا المطلب غير مرحب به كثيرا، بل ربما يستفز بعض المعنيين بالأمر، فمن المؤسف أن الساحة المحلية في الكويت شديدة الاستقطاب، ولذا فمن النادر أن تتوفر شخصيات قادرة على نزع نفسها من النزاعات اليومية، والقفز فوق الصراعات، فضلا عن توفير مظلة عمل وطني مشترك.

إذ حتى الشخصيات الوطنية التي حظيت بقبول شعبي من جميع الفئات، وتم الاحتفاء بها في يوم ما من قبل كل أطياف المجتمع، لم تنجح في الحفاظ على حيادها ولم تصن مقبوليتها من الانفلات.

فثمة أعضاء امتلكوا قدرات فائقة في خلق مسار يلتقي عليه كل الخصوم السياسيين، وكانوا محل قبول الليبراليين قبل الإسلاميين، والشيعة قبل السنة، والبدو قبل الحضر، والسلف قبل الإخوان، والفقراء قبل الأثرياء. لكنهم بعد الخروج من قبة البرلمان صنفوا أنفسهم وطنيا ثم إسلاميا ثم مذهبيا ثم مدرسيا، وخسروا قطاعا كبيرا من أنصارهم، ولم يعودوا يشكلون أي معنى وطني بالنسبة إليهم، على الرغم من أنهم يمتلكون إمكانيات ومهارات تؤهلهم لأداء دور وطني جامع.

وهذا الأمر ينطبق على عدد كبير من الشخصيات التي كانت تمتلك رصيدا شعبيا لكنها لسبب أو لآخر قررت أن تتحزب أو تتكتل أو تتمذهب، وتحصر نفسها وجهودها في أطر ضيقة جدا، وتفقد دورها وتأثيرها كمرجعيات سياسية كبرى ومؤثرة.

لذا أدعو الرموز السياسية المخضرمة، والقادرة على التنظير السياسي والفكري، إلى ترك التنافس الانتخابي، والزهد بالمقعد النيابي، والبقاء في دكة الشعب، وتوسعة مساحات وأطر العمل السياسي والإصلاحي، والثقة بوجود أجيال جديدة تحمل راية الإصلاح السياسي، ويمكنهم مساندتهم ودعمهم وترشيد عملهم.

والعلم أن عدم الترشح لمجلس الأمة ليس نهاية المطاف، ولا يعتبر هزيمة للشخص، ولا إهانة للتاريخ السياسي، بل هو فضيلة سياسية، وتغليب للمصلحة العامة، وتوفير مظلة سياسية واسعة لجمهورهم وتياراتهم، وقبل كل ذلك إعادة الاعتبار للعمل السياسي العام وترشيده من خارج أسوار البرلمان وحدوده.