د. كرم الحلو يكتب:

عن الحريّة والثورة في فكر عبد الرّحمن الكواكبي

بيروت

"لقد سمّموني يا عبد القادر". كانت هذه آخر كلمات عبد الرّحمن الكواكبي إلى صديقه الطبيب الحلبيّ عبد القادر الدبّاغ ليلة 14 حزيران (يونيو) 1902. كان يسهر تلك اللّيلة في مقهى يلدز في القاهرة مع عددٍ من أصدقائه، منهم رشيد رضا ومحمّد كرد علي وعبد القادر الدبّاغ. ولم يلبث، بعد تناوله القهوة، أن أحسَّ بألَمٍ شديد في خاصرته تفاقَم بعد إعادته إلى المنزل، ولم يفلح عبد القادر في إنقاذه ففارَق الحياة بعد منتصف اللّيل. ورجَّحت المَصادِر المُختلفة أن يكون قتلة الكواكبي من عُملاء السلطان عبد الحميد أرسلهم أبو الهدى الصيّادي خصْم الكواكبي وعدوّ النهضويّين جميعاً.

هكذا كانت خاتمة حياة الكواكبي، المفكّر العظيم الذي قَرن فكره بحياته والتزمه التزاماً نادراً حتّى قضى في سبيله مسموماً. فمَن هو هذا المفكِّر المُناضِل؟ ما هي آراؤه السياسيّة والاجتماعيّة؟ وفي أيّ إطارٍ تاريخي صاغ أفكاره؟ وما مَوقعه في فكرنا النهضوي؟

وُلد عبد الرّحمن الكواكبي في حلب في العام1854. وحلب منذ القرن التاسع عشر مَركز تفاعُلٍ حضاريّ بين الشرق والغرب، نشأت في أرجائها فئة جديدة من المثقّفين على معرفة مباشرة بالحياة الأوروبيّة، وكان لها الأثر اللّافت في حركة النهضة العربيّة. ففي حلب أُنشئت المطبعة العربيّة الأولى في العام 1702، ومن حلب امتدّت شعلة الأدب العربي إلى لبنان، فنشأت أُسرٌ بكاملها من رجال الأدب كآل اليازجي والبستاني والشدياق، مؤسّسي نهضة العرب الأدبيّة في القرن التاسع عشر.

وقد أَسهمت الحركة الثقافيّة هذه في خلق مناخٍ فكري تحرّري ترعرعت في كنفه قيَمٌ روحيّة كانت حتّى ذلك الحين غريبة عن الجوّ الفكري السائد في الشرق. فطُرحت على بساط البحث موضوعات الحريّة ودَور الحاكِم والحكومة وحقّ الشعب في الإشراف على سياستها ومُراقبتها، وجرى التفاتٌ إلى الفئات المسحوقة في المجتمع العربي وحقّها في الحياة الكريمة. ولم يكُن من المُستغرب في هذا الجوّ من اليقظة الفكريّة والاجتماعيّة أن تعرف حلب أدباء ومفكّرين روّاداً من أمثال فرنسيس وعبد الله ومريانا مرّاش، ونصر الله وجبرائيل دلّال، ورزق الله حسّون، وعبد الرّحمن الكواكبي، كما لم يكُن من المُستغرَب أن تَطبع في تلك المرحلة المبكّرة من تاريخ نهضتنا العربيّة، كُتباً مثل "دليل الحريّة الإنسانيّة" (1861)، و"غابة الحقّ" (1865) لفرنسيس المرّاش، أو قصيدة "العرش والهيكل" لجبرائيل دلّال.

في موازاة هذه اليقظة الفكريّة، كان الفساد يستشري في السلطنة العثمانيّة ويزداد إرهابها وطغيانها، فتُرهق الشعب بالضرائب وتَفرض الرشاوى وتنكِّل بالأحرار وتمنع أيّ مَظهر من مَظاهر الحريّة الإنسانيّة.

في هذا الإطار التاريخي، نشأ عبد الرّحمن الكواكبي، سليل الأسرة الهاشميّة الشريفة التي يعود نسبها إلى الإمام عليّ بن أبي طالب. كان أبوه حجّة في عِلم الفرائض وخطيباً إماماً ومُدرِّساً في الجامع الأموي في حلب. أمّا أمّه، فيعود نسبها إلى الشريف أبي محمّد إبراهيم الذي مدحه أبو العلاء المعرّي، وكان أبوها مفتي إنطاكية، ما يُفسِّر عمق المؤثّرات الدينيّة في فكره والجوّ الديني الخالص الذي تربّى فيه. تعلَّم التركيّة والفارسيّة والعلوم الشرعيّة، وأحبَّ الصحافة فأَصدر جريدة "الشهباء"، ثمّ "الاعتدال"، فكان "أوّل صحافيّ مُحترِف في حلب" وفق المُستشرِق الروسي ز. ل. ليفين.

تقلَّب الكواكبي في مَناصبَ حكوميّة مهمّة في حلب، فتولّى رئاسة غرفة التجارة ورئاسة المصرف الزراعي وإدارة المطبعة الرسميّة. لكنّ المَناصِب المُغرية لم تكُن لتُحرفه عن مُقاوَمة الظلم والاستبداد، فكان في كلّ مرّة يتخلّى عن أرفع المَناصِب ليحدب على آلام الفقراء والضعفاء فيُحرِّر ظلاماتهم ضدّ الولاة الظالمين. وعندما لجأت السلطة العثمانيّة إلى المكائد والمؤامرات لإرهابه فسلَّطت عصاباتها للاعتداء عليه، لم يجد سبيلاً غير الهجرة إلى مصر، مَوئل الأحرار في ذلك العصر، فلقي ترحيباً حارّاً من أهل الفكر. وفي مصر طبع الكواكبي كتابَيه الشهيرَين "أمّ القرى" و"طبائع الاستبداد"، وكان قد كتبَ قسماً منهما في حلب. ولمّا لم يجد العثمانيّون وسيلة لإسكات هذا الصوت الحرّ، أرسلوا مَن دسَّ له السمّ فتوفّي خاتِماً حياة زاخرة بالنضال، ولم تكتفِ السلطة العثمانيّة بهذا القدر فأَوفدت مَن صادرَ مخطوطاته وأوراقه الخاصّة.

أثمرت حياة الكواكبي الغنيّة والخصبة فكراً تحرّريّاً عربيّاً متقدِّماً على فكر مُعاصريه، باستيعابه إيديولوجيّة التنوير الفرنسي وصياغته لها بحيث يُمكن اعتباره علامة بارزة ومميَّزة في الفكر التحرّري العربي. فهو أوّل مَن صاغ فكرة القوميّة العربيّة صياغة بلغت من النضج والوضوح حدّاً جعلَ أكثر الباحثين يجدون في أفكاره العربيّة أنضج بناء فكري شهده، حتّى ذلك الحين، تطوُّر الفكر القومي عند العرب، حتّى أنّ مارون عبّود رأى أنّ الكواكبي ربّما كان موقد نار اليقظة القوميّة العربيّة إذا قارنا فكره القومي بمَوقف المؤتمر الذي عقده ممثّلو التيّارات العربيّة والقوميّة في ولايات المَشرق العربي العثمانيّة، ولوجدنا البون شاسعاً بين نضوج فكره القومي وتخلُّف المؤتمر في هذا الصدد. فبينما كان الكواكبي يتحدّث عن الكيان العربي والخلافة العربيّة، نرى المؤتمر يتحدّث عن الأمّة العثمانيّة، ونرى خطباءه ينفون فكرة الانفصال عن الدولة العثمانيّة ويُشدِّدون على إصلاح النظام السياسي فقط في إطار السلطنة. وعلى الرّغم من ظهور التمايُز في هذا المؤتمر بين الرابطة العثمانيّة والرابطة القوميّة، إلّا أنّ ذلك لم يصل إلى حدّ المُطالَبة بالاستقلال عن الدولة العثمانيّة، وجاءت المقرّرات النهائيّة للمؤتمر إصلاحيّة في مُجملها لا تحمل هدفاً قوميّاً عربيّاً.

على الضدّ من هذه التوجيهات الرامية إلى إصلاح النظام السياسي في إطار السلطنة، تخيَّل الكواكبي في كِتابه "أمّ القرى" مؤتمراً عربيّاً في مكّة المكرَّمة قَصَرَه على مندوبين يمثّلون العرب العثمانيّين، هدفه تجسيد الوحدة بين العرب الذين احتلّ العثمانيّون بلادهم واغتصب أوّل سلاطينهم الخلافة بالإكراه، فدعا إلى إعادة الخلافة للعرب فهُم "أنسب الأقوام لأن يكونوا مَرجعاً في الدّين، وهُم أعرق الأُمم في أصول الشورى"، قارِناً دعوته بحثّ العرب على الثورة ضدّ الأتراك لاستعادة مَجدهم الغابر، حيث خاطبهم في "أمّ القرى" بقوله: "أجدادكم ينامون الآن في قبورهم مستوين أعزّاء، وأنتم أحياء معوجّة رقابكم أذلّاء"؛ وخاطبهم في "طبائع الاستبداد" بقوله "إنّ الهرب من الموت موت، وطلب الموت حياة". والكواكبي إذ يحضّ العرب على الثورة، فإنّه ينطلق من منظورٍ علماني يُعلي الرابطة القوميّة فوق كلّ رابطة طائفيّة أو مذهبيّة، يقول: "دعونا ندير حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط".

إذا كانت مَواقف الكواكبي هذه علامة بارزة في الفكر التحرّري العربي، فآراؤه الاجتماعيّة هي الأكثر ثوريّة والأكثر راديكاليّة، وإدانته للاستبداد ما هي إلّا مقدّمة لتصوّره للمجتمع الحرّ قوميّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً. لكنْ ما هو الاستبداد؟ ما هو المجتمع الحرّ الذي ينشده الكواكبي؟ ما هو النظام البديل لنظام الاستبداد وكيف السبيل إليه؟

رأى الكواكبي إلى الاستبداد باعتباره "تصرّف فردٍ أو جمْعٍ في حقوق قوم بلا خوف تبعة" و"صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرّف في شؤون الرعيّة كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب مُحقّقين". فالمُستبِدّ "يودّ أن تكون رعيّته كالغنم درّاً وطاعة، وكالكلاب تذللّاً وتملُّقاً... وعلى الرعيّة أن تعرف أنّ الناس وضعوا الحكومات لأجل خدمتهم والاستبداد قلب الموضوع فجعل الرعيّة خادمة للرعاة كأنّها خُلقت لأجلهم فقبلوا وهُم في ذلك إنّما يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشىء عن الجهل، فإذا ارتفع الجهل زال الخوف... وانقلب المُستبِدّ إلى وكيلٍ يَهاب الحساب".

إنّ النظام الذي يتطلّع إليه الكواكبي هو النظام الاشتراكي فـ "العرب هُم أهدى الناس لأصول المعيشة الاشتراكيّة". والسياسة الإسلاميّة في زمن الخلفاء الراشدين كانت اشتراكيّة قضت حكومتهم بالتساوي بينهم وبين فقراء الأمّة في نعيم الحياة وشظفها". وهكذا لا لزوم للاقتداء بالغرب في إصلاح شؤوننا الاجتماعيّة، إذ "لو عاش المُسلمون مُسلمين حقيقة لأمِنوا الفقر وعاشوا عيشة الاشتراك العمومي المنظَّم التي يتمنّى ما هو من نوعها أغلب العالَم المتمدّن الإفرنجي".

إنّ المجتمع المثالي الذي يرنو إليه الكواكبي محفوفٌ بأنواعِ القوّات: قوّة الإرهاب وقوّة الجند وقوّة المال وقوّة رجال الدّين وقوّة أهل الثروات وقوّة الأنصار من الأجانب. في هذه الحالة لا بدّ من الثورة لأنّ وجود "سلطة منحلَّة لعنادها أو غلبة سلطة شخصيّة عليها هو المنشأ الأصلي لكلّ شقاء بني حوّاء". ولكنّ الكواكبي، الذي يؤثر التطوّر التدريجي لأنّ ما يحصل بالتدريج يكون أنفَع وأرسَخ وأحكَم ممّا يحصل بثورة مُفاجِئة، يبدو وكأنّه يتبنّى فكرة التحوّل الثوري الانقلابي للمجتمع، إذ يقول محرِّضاً على هكذا تحوّل: "خوف المُستبِدّ من نقمة رعيّته أكثر من خَوفهم من بَأسه، لأنّ خَوفه ينشأ عن عِلم، وخَوفهم ناشىء عن جهل، وخَوفه من فقْد سلطانه، وخَوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطنٍ يألفون غيره في أيّام".

إلّا أنّ الكواكبي، وعلى الرّغم من تأييده للثورة على الاستبداد، يدعو إلى تنوير الرأي العامّ للمُشارَكة في التغيير المنشود، وإلى تفادي العنف قدر الإمكان "كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً". غير أنّ الفتنة قد تنفجر طبيعيّاً إذا بلغ الاستبداد حدّاً من الشدّة يصبح معه العنف الثوري مُبرّراً، يقول: "فلا يتخيّل الإنسان في نفسه عجزاً، ولا يتوقَّع إلّا خيراً، وخير الإنسان أن يعيش حرّاً مِقداماً أو يموت". لكنّ الثورة التي ينشدها الكواكبي يجب أن تكون واعية إذ إنّه "قبل مُقاوَمة الاستبداد يجب تَهيئة ما يُستبدَل به الاستبداد".