سمير عادل يكتب:

الإسلام السياسي في العراق

بغداد

يُعدّ تيار الإسلام السياسي من أكثر تيارات الطبقة البرجوازية انحطاطا وتخلفا وإجراما، فالسلطة الحاكمة في العراق اليوم هي سلطة الإسلام السياسي بامتياز. والصراع القائم اليوم في العراق هو بين أجنحة ذلك التيار على السلطة من أجل حسمها لهذا الطرف أو ذاك، وبغض النظر عن تغليف كل جناح صراعه بشعارات فارغة من المحتوى لإثبات أحقيته الزائفة التي تتمحور تارة بالدفاع عن الشرعية والدولة والدستور، وتارة أخرى بالإصلاح وطرد الفاسدين.

وسواء مثلت تلك السلطة حكومة هلامية الشكل مثل مصطفى الكاظمي أو شخصيات (إسلامية أقحاح) مثل نوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبدالمهدي، فإنَّ جميع مفاصل المؤسسات الحكومية والتنفيذية والأمنية تديرها الأحزاب الإسلامية وميلشياتها، بيد أن الفارق بين النموذج العراقي وبقية نماذج البلدان الأخرى هو عدم وضوح الهوية السياسية للدولة فيما إذا كانت إسلامية أو أنَّها غير واضحة المعالم بشكل قاطع، بالرغم من “شيعية” ديباجة الدستور العراقي، ومن النوع الجعفري.

ويعود السبب إلى عدم حسم مصير السلطة السياسية التي تتكالب عليها جميع القوى السياسية القومية، بشقيها العروبي والكردي، والإسلامية بما فيها الإخوة التوائم في البيت الشيعي، وبالنتيجة ستؤدي إلى حسم هوية الدولة بشكل نهائي فيما إذا كانت إسلامية أم لا، وطبعا لا بد من ذكر العامل الأساسي الآخر وهو جذر المجتمع العراقي المدني والعلماني، والذي قاوم إلى حد الآن جميع محاولات أسلمة المجتمع منذ الحملة الإيمانية لصدام حسين عام 1996، ومرورا بمساعي ميليشيات جيش المهدي التابعة لمقتدى الصدر في بدايات الاحتلال عام 2003 في فرض الشريعة الإسلامية في مناطق نفوذه، ثم بعد ذلك جاءت القاعدة وأخواتها لفرض إمارتها الإسلامية وتحت عنوان مقاومة الاحتلال ومستغلة الحرب الأهلية الطائفية عام  2006، وانتهاء بسيطرة داعش على ثلث مساحة العراق في يونيو 2014.

وبموازاة ذلك، كانت هناك حملة سياسية واجتماعية منظمة لفرض “التشييع” الإسلامي، في العديد من مناطق العراق، وخاصة بعد التخلص من سيناريو داعش في الموصل وصلاح الدين وكركوك وديالى وبابل، إلى جانب مساعي حثيثة في إعطاء صبغة قانونية لذلك “التشييع” الإسلامي عبر تقديم مشاريع القوانين إلى البرلمان لترسيخ سلطة الإسلام السياسي الشيعي؛ مثل قانون حرية التعبير الذي أعطى صلاحية كاملة بتنظيم المناسبات الدينية في أيّ مكان وزمان، وحتى الجامعات لم تنفذ بجلدها بتنظيم تلك المناسبات فيها، بالإضافة إلى تغيير عدد من المناهج المدرسية في مواد الدين والتاريخ حسب الرواية الشيعية للتاريخ الإسلامي، وتخصيص موازنة سنوية للأوقاف الدينية تقدر بأكثر من ملياري دولار وهي أعلى من موازنة وزارة الصناعة، وتقديم مشروع قانون العطل الرسمية الذي وصلت عدد أيام العطل فيه إلى 152، وأكثر من 80 في المئة منها مناسبات دينية شيعية، إلى جانب مساع لتغيير قانون الأحوال الشخصية وإحلال القانون الجعفري محلها وهلمّ جرا.

ولم تكتف السلطة الميليشياوية الحاكمة بتلك الحدود، بل راحت تستغل نفوذها في الأجهزة الأمنية والاستئثار بوجودها في السلطة وغياب الدولة بالمعنى القانوني والأمني، لشن الهجمات على النوادي الاجتماعية ومحلات بيع الكحول وقتل باعتها والعاملين فيها، كما سعت لمنع الحفلات الغنائية والمناسبات والمهرجانات، على سبيل المثال مثلما حدث في مهرجان بابل الأخير واقتحام مدينة السندباد من قبل ميليشياتها إلى جانب تنظيم الهجمات على عيادات التجميل وصالونات الحلاقة وقتل العديد من النساء في وضح النهار.

في هذا المشهد الدرامي يتصارع اليوم جناحا الإسلام السياسي الشيعي على السلطة، جناح التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر الذي يمتلك ذراع ميليشيات تسمى بسرايا السلام وجناح تحالف الميليشيات الذي يسمى بالإطار التنسيقي ويقوده المالكي – الفياض – العامري. والجدير بالذكر أن قانون الانتخابات يمنع مشاركة قوى ميليشياوية في الانتخابات أو أيّ طرف له علاقة بأذرع عسكرية، ولكن من المثير للسخرية أنَّ لوحة المشاركين في الانتخابات، التي تتعلق عناصرها بالبيت الشيعي والتي وصلت إلى البرلمان، تمتلك ميليشيات ممولة من موازنة الدولة.

كلا الجناحين التوأمين في البيت الشيعي متفقان على البرنامج الاقتصادي الذي وضعه بول بريمر الرئيس المدني للاحتلال الأميركي في عام 2003 بالتنسيق والتعاون مع صندوق التنمية الأميركي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أي أنَّ كلا الجناحين ليس لديهما مشكلة في تعطيل 200 مصنع من كبريات المصانع في الشرق الأوسط مثل البتروكيماويات والحديد والصلب والورق وصناعة المركبات الثقيلة والمتوسطة عبر عدم تزويدها بالطاقة الكهربائية والتمويل الحكومي.

كما أنهما متفقان على تخفيض قيمة العملة المحلية الدينار مقابل الدولار، ومتفقين أيضا على عدم تشغيل العاملين في القطاع الحكومي بعقود دائمة تجنباً لمنحهم الضمان الاجتماعي أثناء حوادث العمل أو الاستغناء عنهم وحرمانهم من العلاوة والترقية والضمان الصحي والتقاعد، ومتفقين أيضا على تحويل العراق إلى سوق عمالة رخيصة يحرم العمال من حقوقهم في التظاهر والإضراب والتنظيم في حالة أي نزاع بينهم وبين صاحب العمل لتشجيع الشركات الأجنبية على الاستثمار في العراق كما نراه في الشركات النفطية مثل بي بي البريطانية وبتروجاينا الصينية وإكسون موبايل الأميركية وتوتال الفرنسية وروز نفط الروسية وإيني الإيطالية، حيث يتعرض العمال إلى شروط عمل قاسية بالإضافة إلى تفشي أمراض السرطان في صفوفهم.

نقول إن جناح الصدر وجناح الإطار التنسيقي ليس لديهما أيّ مشكلة مع البرنامج الاقتصادي لحكومة الكاظمي أو الحكومات التي سبقتها، طالما يؤمن استقرار السوق العراقية ويربطه بالسوق الرأسمالية العالمية، في الوقت الذي يتحمل العمال والموظفون والمتقاعدون والعاطلون عن العمل أعباء الأزمة الاقتصادية، في حين لا يمس البرنامج الاقتصادي المذكور امتيازاتهم وعمولاتهم، كما أنهما متوائمان في فرض الأسلمة على المجتمع العراقي مثلما ذكرنا، بيد أن المعضلة الأصلية هي في مشروعهما لإدارة السلطة.

وبهذه المناسبة يجدر بالذكر أن فشل حركة الصدر الأخيرة بالاعتصام أمام مجلس القضاء الأعلى، جاء على إثر استرداد زمام المبادرة من قبل جماعة الإطار التنسيقي، حيث أخذت الضوء الأخضر من طهران بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس ميليشيات الحشد الشعبي فالح الفياض (تغيير في العوامل الإقليمية والدولية سنخصص له مقالا آخر)، وقد أدخل قواته في حال إنذار وهدد إلى جانب قادة الإطار التنسيقي بأنهم ملزمون بالدفاع عن الدولة والدستور والاستعداد بقمع الاعتصام دون أيّ تردد، وهذا ما دفع الكاظمي إلى التصريح بأنه على القوى الأمنية الابتعاد عن الانجرار وراء الصراعات السياسية.

بعبارة أخرى فإنَّ محاولة إيصال المجتمع العراقي إلى الانحطاط السياسي والتدهور الاجتماعي والانهيار الاقتصادي هو بسبب الإسلام السياسي ومشروعه الفاشل خلال ما يقارب عقدين من الزمن، وهذا يفسر أيضا توسع مساحة النزعة المعادية للإسلام السياسي من قبل الجماهير، ويوضح سر المقاطعة لانتخابات أكتوبر 2021 التي وصلت إلى نسبة أكثر من 80 في المئة، علماً بأنَّ الصدر وتياره السياسي يدركان هذه الحقيقة المرة، لذلك نراه يطعّم خطابه السياسي بنغمات وطنية رومانسية لذر الرماد في العيون وإبراز هوية مزورة بدلا من هويته الإسلامية والطائفية وذلك لإخفاء قبحها كي يتجنب ابتعاد الجماهير المليونية عنها.

ويجب أن ننوه إلى أنَّ عامل النزعة المعادية للإسلام السياسي في المجتمع العراقي يلعب دورا كبيرا في دفع التيار الصدري لطرح مشروعه السياسي عبر ما يسمّى بحكومة الأغلبية، لأنه على دراية كاملة بأنَّ الأغلبية الصامتة التي فجرت انتفاضة أكتوبر إذا دخلت الميدان من جديد، فلن يقوم للإسلام السياسي ونظامه قائم في العراق بل وحتى في المنطقة، وعليه في حكومة الأغلبية بالنسبة إلى الصدر هي خطوة بالتنازل عن قسم من حصة الفساد مقارنة بحكومة توافقية ومنح فتاتها للجماهير التي يعيش أكثر من نصفها تحت خط الفقر، للجم أو الإبطاء من انفجار البركان في وجه كل السلطة السياسية، كما عشنا فصولها في أيام انتفاضة أكتوبر.

ولو لم يكن هناك تنسيق وتعاون بين الجناح الموالي لإيران الذي سلّط قناصته في قتل أكثر من 800 شخص وجرح ما يقارب 20 ألف متظاهر وبين التيّار الصدري الذي حرق خيام المتظاهرين وقامت ميليشياته في مهاجمتهم بالسّكاكين والهراوات، والإتيان بحكومة الكاظمي لإنقاذ النظام السياسي ومجمل العملية السياسية، لأُعيد الإسلام السياسي إلى متاحف التاريخ، ولكانت شخصياته ورموزه يقبعون خلف القضبان ويساقون إلى المحاكم العلنية جراء جرائمهم ونهبهم وسلبهم.

إنَّ القلق والخوف والريبة تتعلق بالمستقبل الذي يخيم هذه الأيام على المجتمع العراقي بسبب هذه السلطة الإسلامية الميليشياوية، وكأنَّ أكثر من عقدين من الزمن لم تكفهم من إراقة دماء الآلاف المؤلفة من جماهير العراق تارة بالقتل على الهوية وأخرى بالحرب على الإرهاب ومرة بالقمع الوحشي لمطالبهم المتعلقة بالحرية والمساواة وتوفير فرص العمل، وكل ذلك من أجل نهب أكثر ما يمكن نهبه، واليوم نراهم يدفعون المجتمع إلى فوضى أمنية وسياسية.

هذه الصورة التي نعرضها، يحاول العديد من المدافعين عن العملية السياسية وكل النظام السياسي، حجبها، سواء بماهية هذه السلطة الرجعية، أو بتسويق نظرية أزلية من أجل إبقاء هذا النظام، بغية إحباط أيّ محاولة لوضع حد لمأساة جماهير العراق، وقد بلع عدد ليس بقليل طعم هذه الدعايات. وتجدر الإشارة أنَّ حركة الصدر الأخيرة، سواء فشلت أو نجحت في تحقيق مطالبها في حل البرلمان وتنظيم انتخابات مبكرة، لن تفضي إلّا إلى نفس السيناريو الذي يسمونه بالانسداد السياسي، ومن الممكن حدوث ما هو أسوأ من ذلك، فإن ما سينتج هو تعويم فكرة مفادها إما الانتظار لـ”صحوة ضمير” تحدث لممثلي التيار الإسلامي أمثال الفياض والمالكي والصدر والخزعلي والحكيم والعبادي والعامري.. الخ، حيث يعلنون عن توبتهم ويسلمون أنفسهم إلى المحاكم، وهو ما يعادل ذلك المثل القائل بأن دخول الجمل في ثقب إبرة أيسر من توبة أولئك، أو التسليم والاستلام للقدر الذي حدده هذا التيار الإسلامي وأثبت بشكل قاطع طوال عقدين من الزمن بأنه لا يجيد غير القتل والنهب.

بيد أن الحقيقة المرعبة التي يخشى منها نفس التيار لأنه جربها بنفسه، هي أن الأغلبية الصامتة اليوم أو المتفرجة لم تقل كلمتها إلى الآن، فكما أسقطت حكومة عبدالمهدي التي وقف خلفها القناصون من جماعات قاسم سليماني – المالكي، لن تخونها جسارتها الثورية في رمي السلطة الإسلامية الميليشياوية خارج المكان والزمان التي ما زالت أصوات ناقوس انتفاضة أكتوبر تصم آذانهم.