سمير العيطة يكتب:
حسابات الدول... وحسابات الشعوب
إلى أى مدى ستستمر العربدة الإسرائيليّة، فى فلسطين كما فى سوريا؟ ففى غضون أيّامٍ قليلة، قصفت إسرائيل مطارى حلب ودمشق المدنيين، ووسيلة تواصل حاضرتى الدولة السوريّة الرئيستين مع العالم. وفى هذه المرّة كما فى المرّات السابقة، لم يستفزّ هذا العدوان أحدا لا من الأمم المتحدة ولا من جهة الدول العربيّة ولا من السوريين أنفسهم. لقد اكتفى الإعلام بترداد تصريحات أجهزة مخابرات غربيّة مفادها أنّ القصف كان لمنع هبوط طائرة إيرانيّة تحمل سلاحا لسوريا أو لحزب الله اللبنانى. وكأنّه ليس هناك العديد من المطارات العسكريّة فى البلاد.
هكذا يبدو المشهد فى الجزء الخاضع لسيطرة الدولة من سوريا وكأنّه غزّة. يخضع السكّان للحصار، وتعمّ الفوضى من جرّاء الفاقة الشديدة... وإسرائيل تقصِف متى يحلو لها، دون رادع. وحتّى دون الصواريخ التى تطلقها غزّة لفرض «قواعد اشتباك» تقلّل من وتيرة القصف بضغطٍ دولى ــ عربى.
مصلحة إسرائيل فى إنهاك سوريا ليست أمرا جديدا. وليس غريبا أنّ آخر جيب لتنظيم «داعش» فى الجنوب السورى كان يستند إلى الجولان المحتل. وسوريا خاضعة لاحتلالات أجنبيّة عسكريّة متعدّدة على أجزاءٍ من أراضيها، وإسرائيل هى أيضا تريد فرض رغباتها فيها.
واضح أنّ التصعيد الحالى يتزامن مع قرب التوافق الأمريكى ــ الإيرانى حول الملفّ النووى. وكأنّ إسرائيل تريد بديلا عن منع الولايات المتحدة لها من التدخّل عسكريّا فى هذا الملفّ. كذلك يزداد التصعيد مع تواتر الأنباء عن مصالحة بين السلطتين فى تركيا وسوريا برعاية روسيّة، مصالحة تفتح أفقا جديدا فى الصراع داخل سوريا... وعليها. هنا أيضا ربما تودّ إسرائيل أن تبرهِن أن لا شىء من هذا يُمكِن أن يحدُث دون تحقيق شروطها هى، كقوّة إقليميّة مهيمنة على المنطقة.
تستدعى هذه التطوّرات، وبالأحرى تواجد جميع القوى العسكريّة الأجنبيّة على الأرض السوريّة، حيّزا من التفكير وموقفا من قبل الدول العربيّة، وخاصّةً الخليجيّة منها. هذا، مهما كان الموقف من السلطة القائمة فى دمشق. إذ يفتح تواجد قواعد عسكريّة أجنبيّة دون موافقة الدولة المعنيّة والسكوت عن تدخّل قوى أجنبيّة متى شاءت بابا يُمكِن أن يطال كلّ بلدان المنطقة فى ظلّ التطوّرات المتسارعة فى المواقف والتحالفات مع انفلات الأمن العالمى هذه الأيّام.
الصراعات التى انطلقت فى بعض البلدان العربيّة بعد الغزو الأمريكى للعراق و«الربيع العربى» هى فى الوقت ذاته صراعات أهليّة داخل البلد وصراعات... على البلد. صراعات على السلطة بين أبناء البلد، وصراعات بين قوى خارجيّة تتناحر مباشرةً أو بالوكالة، عبر ميليشيات تموّلها وتسلّحها.
لا بدّ لهذه الصراعات أن تنتهى ذات يوم. بينما تبقى التساؤلات حول إمكانيّة حدوث أى تغيير سياسى فى البلد فى ظلّ تواجد واسع لقوّات خارجيّة متناحرة... وفى ظلّ الفوضى، وتساؤلات حول ما سيحدث للميليشيات، ولأجزاء السكّان، التى اعتمدت على هذه القوّة الخارجيّة أو تلك عندما تتغيّر مواقف الدول المتصارعة.. وتساؤلات حول إذا ما كان كلّ ذلك أهمّ من عيش أبناء البلد وفى جميع مناطق السيطرة حالة معاناة لا نهاية لها، وفى أنّ الجيل الذى نشأ فى أتون الصراع بقى دون مدارس ولا يرى سوى أنّ أمراء الحرب والمهرّبين يحظون وحدهم بالحدّ الأدنى من متطّلبات العيش.
أوضاع سوريا كما لبنان والعراق وليبيا واليمن والسودان وفلسطين تعانى كلّها من الهشاشة المفرطة... وقابلة لانفجارات جديدة تبعا لتقلّبات الأوضاع الدوليّة. واللافت أنّ مسئولى الدول العربيّة الأخرى ووسائل الإعلام فى دولهم يستمرّون منذ عشر سنوات فى الحديث عن هذه الهشاشة وعن تواجد القوى الخارجيّة فيها وصراعاتها وكأنّها أشياء عادية... صحيحٌ أنّ بعض الدول العربيّة قد انخرطت وبقوّة فى الصراعات التى شهدتها البلدان الموصوفة اليوم بهشّة، وربّما ما زال بعض تلك على نفس النهج. ولكن الأوضاع الحالية تستحقّ مراجعة حقيقيّة.
فما مصلحة الدول العربيّة، حتّى التى «طبّعت» علاقاتها مع إسرائيل، فى أن تستمرّ هذه الهشاشة وتتفاقم؟ هذا بينما تستمرّ إسرائيل فى عربدتها؟ لا يُمكِن أن يُبنى عالمٌ عربى متين على أساس هيمنة إسرائيليّة، ولا على صراع «سنى ــ شيعى» مع إيران ولا على صراع على مرجعيّة «الإسلام السنى» مع تركيا. إنّ إيران كما تركيا شركاء تاريخيون فى الحضارة العربيّة ــ الإسلاميّة، التى تألّقت فى أوج ازهارها حين قبلت التنوّع ضمنها، مثل الحلم التى تحمله الشعوب العربيّة فى دولٍ تقبل التعدديّة وتحمى الحريّات. و«تطبيع» العلاقات مع تركيا وإيران، المتعدّدتين فى تركيبتيهما الاجتماعيّة، ربّما أبدى من «التطبيع» مع إسرائيل... دولة التمييز العنصرى.
أمّا فيما يخصّ الصراع بين شعب دولة والسلطة التى تسيطر على مقاديره، فهذا شأن الشعب المعنى، وليس الدول الخارجيّة. ليس مسارا سهلا بل طريق آلام لا يُمكِن مسخه بالاستناد إلى قوى خارجيّة، مهما كانت. ولا يُمكِن أن يأتى بآمال الحريّات والحقوق إذا ما وقف الحالمون بالتغيير ضدّ جزءٍ من شعبهم. فالتغيير يكون من الجميع وللجميع... أو لا يكون. إنّ مساره الصعب يتطلّب حشد فئات المجتمع كلّها حول المصلحة فى التغيير.
لقد سقط «الاستبداد» فى العراق فى 2003 ولكنّ البلد وشعبه ما زالا يعانيان بعد ما يقرب العشرين سنة من «النخب السياسيّة» التابعة للخارج أو من «النخب» التى اعتمدت على توجّهات مذهبيّة أو إثنيّة. لقد سُرِقَت مقدّرات العراق بشكلٍ فاضح ودون رادع. وخرج لبنان من حربه الأهليّة عام 1990 ولكنّ البلد وشعبه يعانيان اليوم من أحد أكبر الانهيارات الماليّة فى العالم. لقد سَرَقَت «نخبه السياسيّة» مدّخرات أبنائه وأموال دولتهم... وهذه «النخب» تمثّل أصلا أمراء الحرب الذين انضوى كلّ منهم تحت جناح قوّة خارجيّة ما. والدرس تتعلّمه اليوم «النخب السياسيّة» المعارضة السوريّة التى تُدرِك بأنّ القوى الخارجيّة التى كانت تحضنها بدأت تدريجيّا تتخلّى عنها، الواحدة تلو الأخرى.
مهما كانت درجة آلام الصراع، لا يحقّ لـ«معارضة سوريّة» أن تفرح لقصف إسرائيل لمطارات بلدها، ولا أن تهزأ من عدم قدرة جيش بلادها أن يردّ العدوان. ولا معنى أن تتباكى مستغيثةً وتطلب العون لجزءٍ من السوريين دون الجزء الآخر، فى حين تعانى الغالبيّة العظمى من المواطنين فى الفقر المدقع ومحرومة من أدنى الخدمات. ولا معنى أن ترتمى «المعارضة» السورية فى أحضان هذه الدولة الخارجيّة أو تلك. إنّ حسابات الدول تختلف كثيرا عن حسابات الشعوب.