أكرم عطا الله يكتب:

التباس العودة.... "حماس" وسورية

لم يرغم أحد حركة حماس حتى تذهب بعيداً بهذا الموقف الحاد من الصراع الذي دار في سورية لتُحمل نفسها وزر هذا الاعتذار في بيانها الأخير.
 ولم يكن مطلوباً منها موقف كحزب سياسي، فهي ليست مسؤولة عن تحرير الشعوب العربية من قبضة حكامها ولا نشر الحريات في العالم العربي وخصوصاً أن التجربة الفلسطينية والتي هي جزء من تجسيدها لم تكن سوى امتداد لأداء النظم العربية في صراعاتها وحريات المواطن وسطوة النظام والأمن .
البيان الذي أصدرته حركة حماس والذي جاء بعد حوالي الشهر من الحديث عن عودة العلاقة بين الجانبين أثار ما يكفي من المعارضة حين ذكر أن «حركة حماس تقف مع سورية شعباً وقيادة». وهذه المرة من داخل الحركة نفسها ومن الإسلاميين الذين عملت الحركة على شحنهم وتعبئتهم على سورية «قيادة» وضرورة إسقاطها باعتبارها تقتل المسلمين، وباعتبار أن عملية الشحن كانت تأخذ طابعاً عقائدياً لا يقبل المرونة بدا أن الموقف الجديد كأنه خروج عن العقيدة، وهنا أزمة السياسة حين تحتكم للمرجعيات الدينية فلا تترك مجالاً للمرونة، وخصوصاً أن هذا الموقف كان يتعزز بفتاوى دينية وصلت أن تطلب مرجعيتها ممثلةً بالقرضاوي «تدخلاً أميركياً» لضرب النظام السوري.
ولكن لا يمكن قراءة الموقف القديم ولا الجديد بمعزل عن مناخات اللحظة التي اتخذت فيها حركة حماس ذلك الموقف الحاد. فلم يكن الموقف أيديولوجياً دينياً صرفاً، وإلا لما أقامت الحركة لسنوات في كنف النظام العلماني الذي قاتل جماعة الإخوان في حماة أصلاً، لكن مشكلته أنه تم إلباسه ثوباً دينياً مع مستجدات الصراع السوري، كان موقفاً سياسياً مصلحياً استدعته الفرصة التي توفرت وتطلبت الانقلاب على الحليف، لأن حليفاً أكثر قرباً كان يتراءى خلف الأحداث.
علينا العودة لتلك اللحظة، حينها بدأت دول خليجية من حلفاء حركة حماس تقود إسقاط النظام، وكانت تلك الدول تحتضن مرجعيات دينية، وفي تلك اللحظة كانت المعارضة السورية تتحضر على أبواب دمشق لاقتحامها، وبدا أن النظام في طريقه للسقوط، فلماذا لا تقف ضده وتحسب الموقف حتى وإن كان حليفاً، فالتاريخ أوشك أن يطوي صفحته.
وفي تلك اللحظة كانت حركة الإخوان المسلمين تشق طريقها للحكم في القاهرة وهي الدولة المركزية قائدة الإقليم وبها رأس الإخوان، وتتحضر لسقوط باقي العواصم في يد الإخوان... كانت لحظة تاريخية مثلت ذروة النشوة الإخوانية بحيث لم يعد ضرورة للأنظمة السابقة التي تحالفت معها مؤقتاً رغم فوارق الأيديولوجيا. وكانت سورية على وشك السقوط، ولأن حركة الإخوان في العواصم هي الحركة المؤهلة لتسلم الحكم باعتبارها الأكثر تنظيماً بعد أن قضت النظم العربية على المجتمعات المدنية والأحزاب السياسية، كان لدى حركة الإخوان من القدرة ما يمكن أن يملأ فراغاً يخلفه رحيل النظم، كان هذا في مصر وتونس وكانت دمشق على الطريق.
تلك كانت أشبه برمية النرد بالنسبة للحركة، وأحيانا تحتمل السياسة تلك المقامرات، وخصوصاً أن المسرح كان مهيئاً لتلك الرمية من تساقط أحجار الدومينو تباعاً في مصر وليبيا وتونس واليمن، ولم تحسب أن سورية كانت امتداداً لمصالح كونية كبرى اختلفت عن سابقاتها وأن الأراضي السورية ستكون الحلبة التي ستدور عليها المصارعة الدولية، وأن هناك أطرافاً لن تسمح بسقوط النظام. ولو سقط النظام في سورية ولو لم يسقط الإخوان في القاهرة وسارت الأمور حسب الأحلام كان سيكون موقف «حماس» في الجهة الرابحة، لكن لسوء حظها لم تأت رياح الإقليم بما اشتهته سفنها وكان التاريخ يسير معاكساً.
وحينما لا يحالف لاعبَ النرد الحظ يصبح تلقائياً في الاتجاه الخاطئ من التاريخ، ولا شك أنه سيدفع الثمن. فالسياسة ليست ابنة الآمال ولا ابنة الأيديولوجيا وهي متغيرة، وهنا أزمتها مع العقيدة لأنها متغيرة فيما العقيدة ثابتة، وهنا حدث الاصطدام مع قواعد ونشطاء التيار الإسلامي حول العالم مثل ابراهيم حمامي وياسر زعاترة وغيرهما الذين يشنون هجوماً على حركة حماس، أما فيصل القاسم الذي يلتحق بموجة الهجوم فهو رواية أخرى.
لم يكن النصف الثاني من موجة الربيع العربي في صالح حركة الإخوان التي صعدت لتملأ فراغ البدايات وتأخذ كل تلك المواقف، باعتبار أن التاريخ يفتح لها أذرعه وأن المنطقة تستعد لحكم حركة الإخوان في عواصمها. فقد كانت الضربة الأكبر في القاهرة والتي احتاجت «حماس» سنوات لإعادة العلاقة مع الحكم الذي أزاح الإخوان بعد أن وقفت بنفس الحدة ضده وأيقنت أن متطلبات السياسة تستدعي التنازل عن الأيديولوجيا، وأنهما في لحظة ما نقيضان لا يلتقيان بل إن أحدهما لا بد وأن يمس بالآخر، ثم خسرت الحركة تونس والسودان ولم تتسلم الحكم في ليبيا ولا اليمن وسقطت في الانتخابات في المغرب. وبدا أن اللحظة تشهد أفول حركة الإخوان وتذهب بها الى مخازن التاريخ، وهنا كان لا بد للفرع الفلسطيني منها إلا أن يتأثر، وخصوصاً أن دول الإقليم التي حملت المعارضة السورية على أكتافها وأموالها بدأت بالتحلل منها، فتركيا طالبتهم بالمغادرة وترسل رسائل للنظام، وقطر توقفت عن حمل الراية وتعيد علاقاتها مع الدول النقيضة للإخوان.
كان موقف «حماس» محاولة لاستغلال لحظة تاريخية عندما ألقى زعيمها خطبته الشهيرة في الأزهر حاملاً علم الثورة السورية في كنف نظام الإخوان بمصر مطالباً بسقوط النظام ...كانت اللحظة تستدعي هذا الموقف بلا منازع، لكن على الحركة الفلسطينية أن تكون أكثر ذكاءً في ممارسة السياسة وتترك خطاً واحداً للعودة بدل أن تقطعها جميعاً، لأن إعادة وصلها بعد ذلك مكلفة سياسياً وأيديولوجياً. وهذا لا تحتمله حركة لديها حمل ثقيل كقضية فلسطين لا تحتمل التلاعب ولا المواقف المرتبطة بالخارج ومصالحه ونزواته.
هذا درس أبرز صفحاته أن مرونة السياسة لعبة أبعد كثيراً من دوغمائية الأيديولوجيا، وأن الارتباطات الخارجية تسحب القوى بعيداً حتى عن مواقفها الوطنية وما تتطلبه من حياد، وأن الأيديولوجيا عبء على السياسة ولا يلتقيان، ليس فقط على صعيد الخارج بل والأخطر على الداخل، وتلك تستدعي مراجعة كبيرة حتى أبرز من المراجعة مع سورية، فتلك بالنهاية دولة أخرى، لكن الأهم ألا يستدعى ذلك مراجعة أخطاء الأيديولوجيا في الداخل الفلسطيني؟