محمد جبر الريفي يكتب:
اتفاقيات سياسية مجحفة في واقع سياسي عربي بائس
كل الاتفاقيات السياسية التي فرضت على العرب قديماً والتي جرت مع الدول العربية حديثاً هي اتفاقيات مجحفة لا تعبر عن آمال وطموحات الشعوب العربية في الحرية والاستقلال الوطني الحقيقي، بقدر ما كانت تعبرعن مصالح معسكر الأعداء.
وكان ذلك بسبب الخلل في موازين القوى حيث الاتفاقيات السياسية التي تعقد عادة في إطار الصراع تكون دائماً لصالح الأقوياء، حدث ذلك في السياسة الدولية في الاتفاقية التي وقعت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بين دول الحلفاء المنتصرة ودول المحور، وما تبع ذلك من تشكل النظام السياسي الدولي المعاصر الذي أصبح بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق يقوم على هيمنة القطب الأمريكي الأوحد، ثم ما لبث أن عادت القطبية الثنائية ببروز روسيا السلافية كوريث لقدرات الاتحاد السوفياتي النووية.
بانطلاق الحركة الاستعمارية بعد تشكل الدول القومية في أوروبا أخذت تشير بوصلتها إلى الوطن العربي، إضافة إلى مناطق أخرى في قارتي اسيا وأفريقيا وكانت أول الاتفاقيات السياسية التي فرضتها الحركة الاستعمارية الأوروبية في المشرق العربي هي اتفاقية سايكس بيكو البريطانية الفرنسية التي قسمت بلاد الشام ومهدت الطريق لاغتصاب فلسطين الجزء الجنوبي من سورية الطبيعية، وإقامة الكيان الصهيوني العنصري.
وكانت هذه الاتفاقية المشؤومة بداية لحالة التجزئة السياسية الممنهجة التي شوهت طبيعة المنطقة المتجانسة حضارياً، حيث لا يغفل أيضاً ما حدث في المغرب العربي من تجزئة سياسية أخرى من قبل فرنسا وإسبانيا وايطاليا، وبهذه التجزئة وتلك نشأت الدولة الوطنية في الوطن العربي ارغاماً فرضتها بشكل أساسي، إضافة إلى التطلع نحو الاستقلال عوامل خارجية استعمارية كبديل عن الدولة القومية الواحدة التي تجمع شعوب الأمة العربية في إطارها، وذلك كما حدث في تجربتي الوحدة الإيطالية والوحدة الألمانية، حيث كانت تعاني تلك الأمتين من التجزئة السياسية.
حديثا شكلت اتفاقية كامب ديفيد بداية الانهيار للجدار العربي أمام المشروع الصهيوني، حيث تم الاعتراف بشرعية كيانه العدواني الفاشي الغاصب لأول مرة بعد نكبة عام 48 من أكبر دولة عربية وأكثرها قدرة على المستوى البشري على مواجهة المشروع الصهيوني التوسعي، ولتأتي هذه الاتفاقية لتخرجها من دائرة الصراع العربي الصهيوني، ولتحدث أيضاً خللاً واضحاً كبيراً في موازين القوى لصالح الكيان الصهيوني كانت نتيجته تغول مؤسسته العسكرية في المنطقة، بالاستناد إلى الدعم الأمريكي السياسي والعسكري.
فقام شارون وزير الدفاع آنذاك باجتياح لبنان ومحاصرة العاصمة بيروت، وهي أول عاصمة عربية يصل إليها الجيش الإسرائيلي، وكانت جولات المبعوث الأمريكي فيليب حبيب قد أفضت إلى التوصل إلى اتفاقية أمنية بفك الحصار وبإخراج مقاتلي الثورة الفلسطينية إلى بعض بلدان الشتات العربية.
وجاءت اتفاقتي وادي عربة وأوسلو بعد اتفاقية كامب ديفيد لتكمل الطريق نحو تمدد الاعتراف بشرعية الكيان، خلافاً للحقيقة التاريخية والحضارية، ولتفسح المجال لهرولة عربية تطبيعية غير مسبوقة بعقد اتفاقيات برعاية أمريكية متصهينة، بداية من الأنظمة الرجعية العربية الأكثر تخلفاً، حيث وجدت بعض دول الخليج فيه حليفاً استراتيجياً قوياً في مواجهة ما يسمى في وسائل الإعلام بالتمدد الإيراني.
باتفاقية أوسلو انتقل النضال الوطني الفلسطيني من حال إلى حال آخر غيره تماماً عنوانه الأبرز التنسيق الأمني والتهدئة مع الاحتلال، بدلاً من الاشتباك معه والانشغال بتأمين لقمة العيش لما يقارب خمسة ملايين مواطن في الضفة وغزة، ولم يبق من الحركة الوطنية الآن إلا موضوع الوحدة الوطنية والديموقراطية عبر الانتخابات لكيان وسلطة ما زال كلاهما تحت الاحتلال، لعل إنهاء الانقسام السياسي يهيئ النظام السياسي الفلسطيني إلى التوصل إلى اتفاقية تسوية سياسية قادمة مع الاحتلال.
هكذا هي سياسة الاتفاقيات، كان ثمنهاً دائماً مجحفاً بالحقوق القومية العربية وبالحقوق الوطنية الفلسطينية، وكلها تأتي بتوقيت مناسب حيث يتم التوصل إليها في ظل وجود خللاً واضحاً في موازين القوى، وفراغاً هائلاً في الساحة العربية من قيادات قومية وثورية تاريخية، وأيضاً من قوى سياسية ثورية فاعلة لها التفافها الجماهيري الكبير، كما كان الحال مثلاً أيام المد القومي بقيادة مصر عبد الناصر في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.