فاروق محمود حمادة يكتب:
محمد بن زايد .. والنبوغ الإماراتي
العناية التي يعطيها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، منذ أمدٍ طويلٍ للتعليم كبيرةٌ جداً. ورأى، حفظه الله، في العصر الحاضر دولاً وشعوباً تحقق نهضةً كبيرة بنهوض التعليم والعناية به، وبغيره لا تكون نهضة ولا مكانة لأيِّ شعبٍ أو دولةٍ. إنَّه يريد، حفظه الله، أن يصنع جيلاً بل أجيالاً متلاحقة من النوابغ والمبدعين في هذا الوطن، لترسِّخ هذه الأجيال صدارتَه وتقدمه عالمياً، وأمنَه وازدهاره.
ومن هنا كانت كلمة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، التي وجَّهها إلى هيئة التعليم، طلاباً ومعلمين وإداريين، وآباء ومؤسسات المجتمع، بمناسبة العام الدراسي الجديد. إنَّها ترسم نهجاً لإيجاد جيل النُّبوغ الإماراتي، هذا النَّهج متكامل الأبعاد قوي الأسس، حيث قال حفظه الله: "إنَّ التَّعليم منظومة متكاملة..".
وبدأ الحديث مع أبنائه التلاميذ والطلبة والمتعلمين، فبين لهم الطريق الأقوم الذي يعتمد الجدَّ والمثابرة، واستثمار فترة التعليم بأقصى طاقاتهم، وهذا الذي يُثمر الإبداع والعزيمة كما يقول، حفظه الله، في كلمته الأبويَّة. أهم فترة في حياة الإنسان هي طفولته التي تُصنع فيها شخصية الإنسان التي تَثبت فيه طول حياته، وفي هذه المرحلة من العمر تغرس أسباب التفوق والإبداع، وصحبة المعرفة ومحبة القراءة والمطالعة، وبذلك تنمو الطاقات الكامنة في الإنسان من بداية حياته، وتوجِّهه التوجيه النَّافع المفيد، وإذا تركت هذه الطاقة دون تنميةٍ وتوجيهٍ، فإنَّها ستأخذ وجهة العبث والضياع من الجيل الذي سيكون بعد فترة رجال الوطن، وهذه أكبر خسارةٍ للوطن ومستقبله.
الطموح فطرة إنسانية تتجه، حيث تجد المسالك أمامها، والرغبات البشرية متعددة، والجيل المبدع هو الذي تتعدد فيه المواهب، لتغطي حقول الحياة كلها، فكل مبدعٍ له ميدانه، وبهذا يكون النهوض الشامل للوطن، ليبني حضارته المتميزة، ويضع طابعه الخاص عليها.
صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، أكَّد على الجيل الذي يتعلم اليوم أن يكون ذا طموحٍ واسع، ومهاراتٍ متميزةٍ، ليصنع المستقبل بحبٍّ وتفانٍ، وإنَّ تنمية الطموح من أهم أعمال التربية والمربين، لأن مجموع هذه الطموحات في الجيل هي طموح الوطن كله، وإذا كان الطُّموح بذرة في الفطرة الإنسانية، فهو بحاجة إلى تعهدٍ ورعايةٍ حتى تكبر في قلوب الناشئة، فيعانقون الحياة بروح الاستبشار والتفاؤل والثبات، لأنَّ الطموح أشبه بوقودٍ متجددٍ يدفع الإنسان إلى المضي قدماً نحو الأمام. والطُّموح الذي يدعمه الاستمرار والمثابرة، ينتقل بصاحبه من مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلةٍ أعلى، حتى يصل أهدافه الكبرى طال الزمن أو قصُر.
وإذا كان، حفظه الله، قد أيقظ في قلوب الطلبة والتلاميذ مشاعر الطُّموح والفكر البنَّاء الحالم، فإنه كذلك نبَّه المربين والآباء والأمهات إلى مساعدتهم في تحديد طموحهم وتنمية أفكارهم التي تنظر للمستقبل، وجعلها جزءاً من الأهداف المتوخاة من التعليم وأهدافه الكبرى في الوطن، فكلَّما كبر الطفل أو الشاب اتسعت طموحاته، ولكنها في إطار هذه الأهداف الكبرى. وإن عظمة أهداف الأفراد مآلها هو عظمة أهداف الأمة والوطن، وهذه الأهداف تُعلم في كل المستويات، ويرى فيها الجيل الصَّاعد أضواءً كاشفةً على الطريقة التي يسير فيها في حياته، وهي في فكره ومشاعره جذوة متقدة لا تنطفئ، ورقي الأمم ورفعتها برقيِّ أهدافها ونبلها، وهي الإطار الذي تنمو فيه الأجيال وتتم صياغتها طبقاً لهذه الأهداف، فإذا لم يكن للتعليم والمعرفة أهداف واضحة تحوَّل العلم إلى نقاشٍ عقيم. ولهذا فإن كلمة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، للمتعلمين "حددوا أهدافكم" هي نور لعقولهم وقلوبهم، وبلسمٌ شافٍ من أسباب الحيرة والتردد، وغموض المستقبل أمامهم. وإن الركن الثاني من أركان المنظومة التعليمية هو المعلِّم والمعلِّمة، وقد بيَّن، حفظه الله، أهمية عملهم ونبل رسالتهم ورفيع مكانتهم فقال لهم: "إن جهودكم مقدرة ورسالتكم عظيمة ومسؤوليتكم كبيرة..".
أهمية المعلِّم في التعليم والحياة كلّها لم تكن خافيةً قديماً وحديثاً، ولكنَّنا في عصر التنافس والسباق العالمي في ميدان الإبداع والابتكار قد علت أهمية المعلِّم، وازداد أثره في صنع المبدعين، فاختيار المعلم من أهم ما يمكن أن يُراعى في المنظومة التعليمية، وكل ملمة أو حركة أو تصرف حتى الابتسامة فلها في نفس الطفل وفكره وسلوكه تأثير، وإنَّ العلاقة بين الطفل أو الفتى أو الطفلة والفتاة هي جسر العبور إلى المستقبل، والمعلِّم أو المعلِّمة هما اللَّذان يصنعانه، وهما سرّ النَّجاح في حياته العامة والخاصة.
يقول أحد رجال التعليم في الصين تشوينغ شين: قبل خمسة وعشرين عاماً طلب أحد علماء الاجتماع من طلابه القيام بدراسة اجتماعية، والذهاب إلى حيٍّ فقير، ليعرفوا خليفة النمو وبيئة الحياة لمائتي طفل فيه ويضعوا رؤيتهم لإمكانية تنميتهم في المستقبل، فكانت نتيجة الأبحاث جميعها واحدة وهي: ليست لهؤلاء فرصة التخلص من الفقر.وبعد خمسةٍ وعشرين عاماً قرأ هذه الدراسة أستاذٌ آخر لعلم الاجتماع، فقرر تتبعهم ومعرفة حالهم وما وصلوا إليه، فكلَّف فريقاً من طلابه، فكانت النتيجة: أنَّ عشرين منهم تركوا الحي أو ماتوا، ومن بين المائة والثمانين حقق مائة وستة وسبعون إنجازات غير عادية، وبعد أن دهش الأستاذ بذلك قرر أن يزورهم ويسمع سبب تفوقهم ونجاحهم، فكان جوابهم جميعاً وكل واحد بعيدٍ عن الآخرين: "كانت معلِّمتي ممتازة"، وكانت على قيد الحياة فقرَّر زيارتها، وسألها: ما هو السحر الذي استخدمته، لتحويل هؤلاء الأطفال في حيٍّ فقير إلى رجالٍ ناجحين ممتازين؟ فأجابت وابتسامتها على شفتيها وملء عينيها: "لا شيء، أحببت هؤلاء الأطفال".
أجل لا شيء بل الحبُّ وحده الذي يمتلئ به قلب المعلِّم لمهنته وطلابه، فيغرس فيها أسباب النجاح والقيم وحب الوطن، وهنا مصنع جيل التفوق والنبوغ. وقد تساءل عدد من الناجحين في التعليم والتربية: هل يستطيع الحبُّ والحنان من المعلم أن يصنع الذكاء ويفجر طاقات الإبداع؟ وليس هناك أحدٌ منَّا إلاَّ وله ذكرياتٌ مؤثِّرة في حياته مع معلِّميه أو بعضهم، فربَّ تصرُّف حنون هادف من أستاذٍ أو أستاذة، وضع الطالب على طريق النَّجاح والتَّفوق، وربَّ عكس ذلك فرب تصرف قد حطم مستقبل واحد أو مجموعة من الأذكياء... وإنَّ كلمة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، وهو يخاطب المعلِّمين والمعلِّمات إنَّما هي تذكير بالقيم والأساليب التربوية التي يحملونها تجاه التلاميذ، وأهميتها في الحاضر والمستقبل. وإذا كان التَّعليم في مطلع القرن الحادي والعشرين قد أخذ تطوراً كبيراً في مضامينه ووسائله وغاياته، فإنَّ القسط الأكبر من نجاحه يقع على عاتق الهيئة التدريسية، وهم العامل الحاسم في مستقبل الوطن وسلامة أجياله.
صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، ذكَّر الآباء والأمهات والأسرة بدورهم في نجاح أبنائهم والإسهام في نجاح الوطن كله، ولا يقلّ دور الأم في ذلك عن دور الأب، فكم عظيم من العظماء في تاريخنا القديم والحديث كان وراء عظمته أمُّه التي سهرت عليه ووجَّهته التَّوجيه الحسن النَّافع، ومن التجارب المدهشة في عصرنا الحاضر التَّفوق الياباني، وقد كان وراءه المرأة اليابانية، فبعد عشرين سنة من الدراسة في طبيعة الحضارة اليابانية وجد "جورج ديفوس" وهو عالم أنتربولوجي بجامعة كاليفورنيا، أنَّ السرَّ وراء تفوق الأطفال اليابانيين غير العادي في المجال الأكاديمي هو: أمَّهاتهم.
يقول ديفوس: "أخذت المرأة اليابانية على عاتقها مسؤولية تقوية الإجراءات التعليمية المنصوص عليها في المدارس"، أي أدركت أن التعليم لا يكون في المدرسة وحدها، فآزرت المدرسة بترسيخ السُّلوك المدرسي والتَّعليم المدرسي. وإنَّ التعليم خارج المدرسة بدأ يتسع نطاقه لاتساع أنواع التكنولوجيا، وبذلك أصبحت الأسرة جزءاً أصيلاً من المدرسة، والمدرسة جزءاً من الأسرة.
فهذه دعوة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، الآباء والأمهات والأسرة لرعاية أبنائهم ودفعهم في مسالك النجاح والفلاح، لأن دور الأسرة حاسمٌ وكبيرٌ في النُّبوغ والتَّفوق أو الفشل والضياع، وفي الاختيار العلمي وتحديد التوجه المستقبلي للأبناء. وأكَّد، حفظه الله، أنَّ المجتمع والمحيط لهما دورٌ كبيرٌ في دفع الأجيال إلى العلم والتَّفوق، فالرأي الاجتماعي له كبير الأثر في سلوك الشباب واختياراتهم المستقبلية. وإنَّ المجتمع الرشيد الذي تسري فيه روح المعرفة وتعشّق العلم وحبه، يظهر ذلك فيه من خلال معاهد العلم وكثرتها وتنوعها والعناية بها، ومشاركة المؤسسات والأغنياء بحبٍّ وطواعية في تبني النبهاء والأذكياء، لإكمال طريقهم العلمي واصطناع المناسبات، لتكريم أهل العلم والتنويه بهم وإحياء ذكرهم.
النُّبوغ العلمي هو الذي يرفع شأن الوطن، ويحقق الأمن الاقتصادي والمالي والحضاري، فاليابان دولةٌ فقيرةُ الموارد، ولكنها غنيةٌ بالعقول والمبدعين، فهي في الصُّفوف الأولى اقتصاداً ومكانةً ورفاهيةً على كثرة سكانها وتزاحمهم. وأغدق صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، على التعليم الشيء الكثير، ليضع نهضةً علمية شاملة يتقدمها جيل النُّبوغ الإماراتي الذي يُقر عين هذا القائد الفذّ السَّاهر على رفعةِ هذا الوطن، ويريد أن يجعله كلّه معهداً للنَّوابغ في كلِّ العلوم والفنون. فأتمنى أن يحفظ كل شباب وشابات هذا الوطن عن ظهر قلب، هذه الكلمة الحكمة ويسيروا بهذا المنهج الواضح المنير، ليصلوا إلى غدٍ مشرقٍ، ومستقبلٍ عظيمٍ، ووطنٍ متفوق رائدٍ.
لله درُّك يا ابن زايد قائداً سطعَ الزَّمان بفكرهِ الوقَّادِ
ورفعتّ للأوطانِ ذكراً عالياً فغدت مناراً للنَّوابغِ هادِي
ورسمتَ للأجيالِ نهجَ نبوغِهَا
وليبلُغوا العلياءَ في الميعادِ
وحثثتهم نحو العُلا بأبوَّة لترى رجال تفوّقٍ ورشَادِ
فالله يَحفظ قائداً فَاق الورَى
يرعى البلادَ بحكمةٍ وسدادِ
ويصُون داراً أُسُّها من زايدٍ مهوى القلوبِ وواحة الأمجادِ