حسن العديني يكتب:
اليمن .. الـ26 من سبتمبر.. الجهل والجدري والجوع "حياة أكرم منها الموت"
بعد ستة عقود على ثورة 26 سبتمبر، يثور السؤال عن مدى النجاح الذي أحرزته في الطريق إلى أهدافها، خصوصًا في ظل الانحراف الجاري هذه اللحظة. وقلت في الطريق إلى أهدافها، ولم أقل تحقيق هذه الأهداف، لأن آمال الشعوب ليس لها مدى محدد، ولا صورة نهائية. إنها خلق مستمر للحياة، كلما بلغت منها الشعوب مرحلة، لاحت أمامها في الأفق مراحل.
إن إقامة حكم جمهوري عادل لم يتحقق بمجرد إسقاط الملكية، فالنظام الجمهوري في جوهره هو توسيع الآفاق وإطلاق المبادرات أمام الجماهير كي تمضي على الدوام من واقعها إلى أمامها.
وفي قياس ما أنجزته ثورة 26 سبتمبر، ليس من المنطق أو الحكمة الوقوف أمام كل هدف معزولًا عن غيره، لكي نرى ما تحقق في مضماره، لأن التقدم في المسعى نحو هدف معين يعزز فرص وإمكانيات النجاح في المضامير الأخرى.
مع هذا قد يجوز إلقاء نظرة للأهداف مستقلة عن بعضها قبل الإطلالة الواسعة لأسباب لا تتصل بحساب النجاح والفشل، وإنما من أجل التعرف على طريقة تفكير قيادات الثورة يوم تصدت للتغيير.
وأول ما يلفت الانتباه أن الثوار حاولوا أن ينسجوا على المنوال المصري، فجعلوها ستة أهداف، ثم وجدوا أنفسهم يحشدون أربعة أهداف في الهدف الأول الذي نص على التخلص من الاستبداد، والتخلص من الاستعمار، وإقامة حكم جمهوري، وإزالة الفوارق بين الطبقات. في المقابل ضمت القائمة بندًا لا يعتبر هدفًا، حيث نص الهدف السادس على احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية… إلى آخره. إن هذا إعلان عن مبادئ والتزامات في السياسة الخارجية لا أكثر. وأما الهدف فهو طموح للانتقال من واقع معاش إلى أمل مرغوب، وهو يتطلب خططًا واستراتيجيات وكفاحًا.
الشيء الآخر الملفت هو وضوح الإيمان بوحدة الشعب والتراب اليمني كما تجلى في الهدفين الأول والخامس، حيث التخلص من الإمامة في صنعاء، يتبعه طرد المستعمر في عدن، ثم العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة. وتبدو الصيغة شاهدة على وعي القيادة الثورية التي لم تقطع عهدًا بإنجاز الوحدة، وإنما وعدت بالعمل من أجلها. ويشهد التاريخ أن ثورة 26 سبتمبر أعطت أولوية قصوى لهذا الهدف من يومها الأول، فدعت إلى صنعاء الأحزاب والكتل الوطنية في الجنوب، وقامت الجبهة القومية، ومن فورها قدمت الدعم العسكري واللوجستي والمالي، فانطلقت شرارة ثورة 14 أكتوبر.
وفي تلك الفترة الممتدة من 26 سبتمبر 1962 إلى ما بعد 30 نوفمبر 1967، غدت اليمن ساحة استقطاب وصراع دولي وإقليمي حاد، وشهدت بنفس الدرجة حالة تفاعل خلاق توحد فيه الوجدان والضمير أروع ما يكون. الجنوبيون يقاتلون في جبال صعدة، والشماليون يقودون العمليات الفدائية في عدن. وعندما انفردت الجبهة القومية بحكومة الاستقلال، ولاحقت مناضلي جبهة التحرير، لم يذهب هؤلاء إلى النوم، وإنما انتقلوا إلى الخنادق يدافعون عن صنعاء المحاصرة.
لن أطوف على الأشجار، وأتوقف عند كل هدف، بل سأحاول أن أنظر إلى الغابة وأرى. وفي علمي أن طائفة واسعة من الأجيال الجديدة تنفر من تمجيد الثورة، وفيها من يعتريها الغضب من الاحتفاء والذكر الحميد. إن إطلالة واسعة على اليمن الذي كان، واليمن في هذا الحاضر الضاج بالمشاكل والمليء بالعذاب، سترينا أن اليمنيين صنعوا قفزة في التاريخ قطعت مسافات قرون عديدة. ولقد يكون من شواهد الانتقال الكبير هذا النفور والغضب، فإن الأجيال السابقة التي عاشت حياة العبودية، لم تكن تدرك حجم وقسوة ما تعاني بفعل تراكم القهر وتوارثه، حتى ساد لديها الظن أن تلك هي الحياة الطبيعية.
وأجد من الصعوبة وصف حياة اليمنيين قبل الثورة، لكن الكتابات والصور القليلة المتاحة التي التقطتها كاميرات رحالة أوروبيين، تروي ملمحًا من المأساة. وجوه شاحبة ونظرات مذعورة وأفواه فاغرة وأجسام هزيلة وبأنصاف أثواب مرقعة تلفحها الشمس أو يلسعها البرد، وأقدام عارية تمشي على الشوك والطين والرمال الحارقة. إن تلك الأقلام والكاميرات لم ترَ دموع الأمهات، أو تسمع بكاء الأطفال الذين يتضورون جوعًا في الأكواخ والبيوت التي تؤوي الحيوانات والناس في غرف متجاورة.
ولم يتح لأولئك الذين جاؤوا إلى اليمن من بلاد الدنيا، أن يراقبوا دورة الحياة كاملة حتى يرصدوا تصاريف الأيام في حياة الفلاح اليمني الذي يفلع الأرض بالمحراث البدائي، ويبذر ويرعى الزرع، ويقلب التربة، حتى إذا اقترب موعد الحصاد حل عليه المثمّر والعكفي والبورزان، ومعهم خيولهم وجنودهم، لتقدير الغلة وتقييد مقدار الزكاة. وهناك الخطاط، وفيه يعاقب الفلاحون بإرسال عكفة ومتنفذين كضيوف إجباريين مدة غير معلومة، تنتهي حين يرفعهم صاحب الأمر.
لقد ساد مفهوم الدولة الجابية على مر عهود الأئمة والأتراك العثمانيين، فالحكومة تتحصل ولا تنفق. إنها دولة تنهب وتذل وتمتهن الكرامة، فإذا بخلت السماء وشحت الأرض ويبس الزرع وعمت المجاعة، يفتح الإمام خزائنه ومخازنه، فإذا لزم تكفين الموتى وجب قياس أطوالهم حتى لا يزيد من القماش إنش.
ولا شأن للدولة بالتعليم والصحة وغيرهما من الخدمات. تكفي بعض المدارس الدينية لإخراج حكام شرعيين وعمال في النواحي وطوافين ونظار مختارين من أبناء الأسر الهاشمية، أو التي امتهنت وظيفة القضاء. وبجانب الجهل استشرت الأمراض وفتكت الأوبئة بالناس، وليست هناك أرقام دقيقة عن متوسط العمر ومعدل وفيات الأطفال، لغياب إدارة حكومية تدون البيانات في شتى المجالات. الحقيقة الوحيدة أن الموت كان ضيفًا على كل بيت يأخذ أكثر الأطفال ويترك أقلهم. في 1969، على سبيل المثال، أعلنت منظمة الصحة العالمية خلو اليمن من الجدري. تم هذا بفضل تعاون دام سبع سنوات بين المنظمة والنظام الجديد، وقبله فإن الداء تشهد به وجوه الآلاف، ذلك الذي عبر عنه الشاعر الذي سمل الجدري عينه “عبدالله البردوني”، وهو يحاور أبا تمام: “ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي مليحة عاشقاها السل والجرب”.
الجهل والجدري والجوع والعري، وماذا أزيد غير أنها حياة أكرم منها الموت.
وجاءت الثورة وحصلت الطفرة. تحرر الفلاح من المثمر والطائفي، ووفر الناس ثمن الرداء والحذاء، بل بدأت المرأة تلبس الحذاء على استحياء، فقد كان هذا عيبًا لا يليق.
إن أول ما اهتمت به الثورة هي معركة التعليم بجانب معركة الدفاع عن الثورة التي أوجبت بناء نواة جيش وطني. وبسبب غياب التعليم فقد كان إتقان القراءة والكتابة كافيًا للالتحاق بالكليات العسكرية أو الحصول على وظيفة حكومية. ولسنوات طويلة ظلت المدارس تقبل الطلاب في صفوف متقدمة باختبارات بسيطة للخط والحساب، حتى تتيح لمن فاتتهم الفرصة أن يمسكوا بها. كان منظر بعض الطلاب بالشوارب في الإعدادية وحتى في الابتدائية مألوفًا، وسمح للطالب أن يجتاز أكثر من مستوى دراسي في السنة إذا اجتهد في التحصيل.
كان المجتمع في حالة سباق، والناس يدفعون بأولادهم إلى المدارس لقهر الجهل والتعويض عن الحرمان، والتحقت الفتاة اليمنية بالتعليم، وبدا جديدًا على الأعين مشهد الطلاب والطالبات في ذهابهم وغدوهم إلى المدارس ومنها. وتخرجت أول دفعة من الثانوية العامة بعد سنوات من الثورة. واستقبلت الجامعات في الدول الشقيقة والصديقة البعثات الدراسية، ثم اتسعت قاعدة التعليم، وانتشرت المدارس من المدن إلى الأرياف، ومن أوائل السبعينيات بدأت البلاد تستقبل طلائع الخريجين، في الوقت الذي شرعت بإنشاء جامعة صنعاء. حدث نفس الشيء في الجنوب، وخرج التعليم من عدن إلى بقية المحافظات.
لقد فطنت الثورة إلى أن التعليم هو الجبهة الرئيسية لمقارعة التخلف، غير أنها لم تغفل الجبهات الأخرى، فالتفتت إلى الصحة والنقل والكهرباء والإدارة الحكومية. وربما لا يعرف البعض أن جهاز النيابة العامة أنشئ في عهد “إبراهيم الحمدي”، وقبلها كان وكلاء الشريعة أو المتخاصمون أنفسهم يواجهون بعضهم أمام القاضي في منزله.
باستثناء عدن، فإن كل مظاهر الحياة الحديثة وجدت بعد 26 سبتمبر. ولقد يقال إن العصر يفرض نفسه تحت أي نظام، بدليل التطور الذي حدث بالجوار. ومع أن للثروة سلطانها، فإن تأثير الثورة في اليمن والخوف من خطر امتداد شعلة الحرية، فرض الانفتاح على العصر هناك. ومن الناحية الثانية، فقد كانت اليمن ترزح تحت وطأة نظام عنصري يعتقد أن تحرر الشعب من الجهل والحاجة، سوف يدفعه إلى البحث عن الكرامة والمساواة.
صحيح أن إخفاقات كثيرة حصلت، وأن انتكاسات وقعت، على سبيل المثال، فإن الثورة لم تفلح في إنشاء مجتمع ديمقراطي تطبيقًا لهدفها الرابع، لكن هذا متروك لحركة التاريخ وللتطور الاقتصادي الذي تنشأ معه طبقة وسطى عريضة، وتضعف فيه القيم القبلية المعيقة للتطور.
ذلك لا ينفي أن الثورة أحدثت حركة جبارة نحو المستقبل، وتكفي الثمرة الأكبر جيوش المتعلمين خريجي الجامعات وحملة الشهادات العليا في كل فروع المعرفة. هؤلاء ومن سيجيء بعدهم ذخيرة المستقبل، وعلى أيديهم سيكون الانقلاب والانتصار على الانحراف البادي الآن، وسيتأكد أن الخراب الذي نشاهده الآن مجرد انتكاسة أخرى في الطريق. بل إن هذه الجموع المتدفقة إلى المستقبل سوف ينبثق من صفوفها قائد تاريخي لا بد أن ينجبه الشعب للضرورة. هذه الضرورة تفرضها المبالغة في الانحراف والتوجه إلى تمزيق البلاد لكانتونات صغيرة، إذ إن الحياة لن تستقيم معها.
وكذلك فإن ثورة 26 سبتمبر لم تكن قفزة في المجهول، بل على العكس توجه واعٍ إلى المستقبل، بما حملته من أهداف لاتزال حية وقابلة للنضال من أجلها انتصارًا للشعب على امتداد اليمن الطبيعي.