هاني مسهور

إلى باندونغ درّ

على حافة الحرب الباردة الثانية ثمة حاجة مُلحه للغاية للاستدارة ناحية التاريخ فذلك الاستقطاب السياسي السائد يقترب أن يصل إلى نقطة الاشتباك المباشر.

تبعات الأزمة الأوكرانية تسرع من مخاض ميلاد النظام العالمي ليس الجديد بل الأكثر قدماً بوحشيته ومواريثه وأيديولوجياته فكافة الظرفيات مواتية لاستدعاء صراعات النفوذ فالقوة الفتاكة وما امتلكته الدول في الثورة الصناعية الثالثة تحفزها مع اشتداد الأزمات العالمية على مدّ سيطرتها ونفوذها.

عند هذه اللحظة لابد من الاستدارة للتاريخ إلى "مؤتمر باندونغ" 1955 الذي انعقد في اندونيسيا وحضره الرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس الهندي جواهر نهرو والرئيس اليوغسلافي تيتو في ظروف تكاد تتشابه من ناحية حدة الاستقطاب السياسي بين المعسكر الغربي والشرقي في بدايات الحرب الباردة الأولى، وفيما أفضى المؤتمر لاحقاً لتشكيل منظمة دول عدم الانحياز في محاولة للنأي من الاشتباك السياسي لكن في الواقع أن لا أحد استطاع أن ينأى بنفسه من ذلك الصراع بسبب مضمون الصراع القائم على الأيديولوجية.

استحضار التاريخ يعطينا تصورات الحاضر حتى وأن كانت ظرفيات القرن الحادي والعشرين تشعرنا أن هناك اختلافات غير أن الواقع يفرض الحقائق فأن كانت لغة المصالح الاقتصادية تتغلب فأنها عند تنافس الأيدلوجية تتقهقر، فالإشارات الأولى تؤكد أنه وبعد توقيع الرئيس بوتين قرار ضم المقاطعات الاوكرانية بساعات فقط قررت إسرائيل معارضتها المطلقة للقرار الروسي، بينما تقمصت مجموعة السبع شخص الرئيس بوش الأبن في 2001 وأعلنت أن أي دولة ستؤيد روسيا ستخضع للعقوبات الاقتصادية تماماً كما فعلها عند الغزو الأميركي على أفغانستان دون تفويض من مجلس الأمن وكذلك فعلت مجموعة السبعة الكبار.

الليبرالية المتطرفة تواجه روسيا بقيم مختلفة فليست هي تلك القيم الماركسية بل قيم معادية لليبرالية اختلت فاستخدمت القيم والمبادئ الديمقراطية لابتزاز الشعوب بدلاً من أن تكون في دعمها للتخلص من الاستبداد السياسي والحصول على العدالة الاجتماعية، التطرف يقابله تطرف فهذه فطرة بشرية لا يمكن اجتيازها تحت أي مسوغات كانت وهذا ما يتم توظيفه في صراع شديد الاستقطاب.

الأحلاف قد تنشأ، فمجموعة البريكس واحدة منها ولكنها في واقع الحال ستخضع للقوى المركزية فلا الصين أو الهند وحتى جنوب إفريقيا والبرازيل دول قادرة على مواجهة النأي الكامل عن حالة الاستقطاب الناشئة في صراع يتم توظيف كل القضايا فيه بما في ذلك التغير المناخي والغذاء ورفع الفوائد في البنوك، تعقيدات الاشتباك التي نشأت في حقبة السيطرة الأحادية للرأسمالية تفرض نفسها على الأحلاف وتفرغها من محتواها مهما شكلت من نوايا العزم على اتخاذ سياسة النأي.

وبالنظر إلى واقعنا فمن المتوقع أن تحقق الدول المصدرة للطاقة من النفط والغاز مكاسب مالية إضافة إلى أن ازدهاراً اقتصادياً متوقعاً مع حلول الشتاء الذي سيجبر الأوروبيين لقضاء بعضاً من أوقاتهم في المناطق الدافئة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لكن هذا لن يعفي أحداً من الاستقطاب فكما تمتلك الدول مخزونات نفطية لديها مخزونات هائلة من البطالة ومخزونات أكبر من الأيدلوجية الدينية المتعصبة التي ستنشط في هكذا بيئة خصبة كما نشطت في الحرب الباردة الأولى وأنجبت الأفغان العرب والثورة الخمينية وتنظيمات داعش والقاعدة وحتى الذئاب المنفردة.

أعضاء منظمة دول عدم الانحياز انتهى بهم الحال ليكونوا رقعة وأحجاراً في لعبة الشطرنج وتبددت رؤية "باندونغ" أمام صراع دولي حاد انتهى بتقسيم يوغسلافيا وفشل منظومة الاقتصاد في عديد من تلك الدول وها هي الاستدارة مرة أخرى لذلك الزمن أمام مشهد سياسي عاصف قد لا يبقي ولا يذر أن لم يعودوا لحكمة العجوز كيسنجر ويقرروا العودة خطوة للخلف.