إبراهيم مشارة يكتب لـ(اليوم الثامن):

محمود شاكر ولويس عوض.. هل كانت معركة يمين ضد يسار

القاهرة

 تعتبر المعركة الأدبية والفكرية التي شب أوارها بين محمود محمد شاكر(1909/1997) ولويس عوض(1915/1990)  من أشرس المعارك  الفكرية بعد معارك العقاد وطه حسين مع الرافعي ومعارك العقاد مع جماعة الشعر الحديث ، فقد كانت في السطح خلافا في قضايا فكرية وأدبية وتاريخية ولكنها في العمق كانت أكبر من ذلك بالنظر إلى المؤيدين للويس عوض وهم نخبة من مثقفي العصر ودعاة التحديث واليسار على شاكلة محمد مندور ومحمد عودة ومحي الدين محمد وغالي شكري ومن الجرائد والمجلات التي ساندته الأهرام والجمهورية وروز اليوسف أي كانت مؤسسات الدولة والعصب الحاكمة بينما وقف إلى جانب محمود شاكر من يوسمون بالمحافظين وتارة أخرى بالرجعيين وأعداء التنوير والحداثة وكانت تقف إلى جانبه مجلتا الثقافة والرسالة ويؤيده  كثير من الأدباء ورجال الدين من علماء الأزهر خاصة ، وقد بدأت هذه المعركة حين نشر لويس عوض تسع مقالات عن أبي العلاء المعري ورسالة الغفران جعل لها عنوانا لافتا هو "على هامش الغفران" ونشرها مسلسلة في الأهرام من 16 تشرين الأول/أكتوبر إلى 11 كانون الأول/ ديسمبر من عام 1964  في عز أيام الناصرية  وحصيلة تلك المقالات أن المعري تأثر باليونانيات في شكه وفي فلسفته  منذ  أن مر بدير الفاروس باللاذقية في طريقه إلى طرابلس الشام وقد مكث أياما وتحدث مع راهب الدير  وقرر كذلك أن الفكر العربي والإسلامي يفتقد إلى الأصالة فهو لن يعدو أن يكون سلخا أو شرحا أو تأثرا بالفكر اليوناني وأن القرآن ذاته يتردد بين آياته صدى اليهودية  والمسيحية فهو إذا حاشية على هذا المتن اليهودي المسيحي .

 إن المعري في لزومياته وفي غفرانه حيث أعلن تردده وحيرته ومال إلى العقل  في تأملاته للمنقول المقدس والمؤسس معا  وانتقد الدين المؤسساتي ورجاله وكرست أشعاره واقعيته الانتقادية التي تعلن فساد الإنسان وأن لا جدوى من صلاحه ، وقد كانت تلك الكتابات الشعرية والفكرية من أبي العلاء زلزالا فكريا وسيلا جارفا  جر عليه خصومات كثيرة حتى اتهم من أجلها بالمروق والإلحاد وجاء في  كتب التاريخ والأدب أن "زنادقة الإسلام ثلاثة :المعري والتوحيدي وابن الرواندي" .

رد محمود شاكر على لويس عوض في الرسالة  بخمس وعشرين مقالة جمعها فيما بعد في كتاب ضخم جعل عنوانه  "أباطيل وأسمار" مستوحى من بيتين لأبي العلاء:

هل صح قول من الحاكي فنقبله

أم كل ذاك أباطيل وأسمــــــــار؟

أما العقول فآلت أنــــــــــه كذب

والعقل غرس له بالصدق إثمــار

وقد كان شاكر عنيفا في الرد يستخدم من حين لآخر عنيف اللفظ ونابيه إلى حد الإسفاف مثل (غرار، فاجر ، دعي ، دمية، سوء أدب،  مجترئ، الطليق، المنفلت ، الشرلتان المضحك، السمادير، الخباط، الترهات، الخ) متهما لويس عوض بالجهل بالعربية ومستفيدا في قسوة هجومه من اعتراف لعوض بأنه لم يقرأ كتابا بالعربية منذ سنوات عدة وهذا في رأي شاكر سبب عدم تعمق خصمه في اللسان العربي والثقافتين العربية والإسلامية وفي مقاربة ومحاولة فهم شعر المعري في سقط الزند واللزوميات والدرعيات وفي مقارباته النقدية لرسالة الغفران لعجزه أحيانا عن النفاذ إلى أسرار التعبير العربي ودلالة هذه الألفاظ، مترادفها ومتضادها وما تجانس لفظه واختلف معناه وما اختلفت حركاته فاختلفت معانيه إلى غير ذلك من أسرار اللسان العربي ومتهما إياه بالعداء الصارخ للثقافة الإسلامية بسبب قبطيته وشيوعيته معا وقد أزعجت هذه الردود القاسية كثيرا من المثقفين حتى من أصدقاء شاكر القدامى مثل محمد مندور الذي سأله الكف عن هذه الكتابة القاسية ولم يأبه حتى أغلقت الرسالة وزج بشاكر في السجن من أواخر أغسطس/ أوت 1965 إلى أواخر كانون الأول/ ديسمبر 1967 .

كان من التهم الثقيلة الموجهة  إلى لويس عوض مهادنة الاستعمار وخدمة التبشير وقد نشر شاكر نصوصا ووثائق وشهادات لمبشرين عملوا بمصر ، ثم كانت القضية الثانية التي عمقت السجال  أكثر وهي قضية الشعر الحديث وقد كان عوض محتفيا بالشعراء الجدد داعيا منذ أن أصدر ديوانه الشعري "بلوتولند وقصائد أخرى" عام 1947 إلى تحطيم عمود الشعر العربي  وقد أهدى ذلك الديوان إلى أستاذه كريستوفر سكيف الأستاذ بكلية آداب القاهرة وأعلن نهاية عصر المتنبي والبلاغة العربية والقافية الواحدة وغياب الجماهير عن الشعر كمادة وموضوع للتأمل وحضور الملوك والإقطاعيين وما يدور في فلكهما من خمريات ومدائح  وغزليات وتقليد ببغاوي واحتفى عوض كثيرا بشعر حجازي ودنقل والسياب والبياتي والحيدري غير أن شاكر اعترض عليه وبعنف متهما إياه بمعاداة العربية والإسلام وممالئة الغرب وتخريب الثقافتين العربية والإسلامية وانتقد إسراف الشعراء المحدثين في استخدام كلمات إنجيلية في أشعارهم على شاكلة  (الخطيئة والفداء، الصلب والغفران) وهي في ريه من مخلفات الغزو الفكري أيه من مخلفات الغزو الفكري وشاكر نفسه صاحب قصيدة بديعة احتفى بها النقاد كثيرا هي "القوس العذراء"   وكان من الواضح أن دعاة الشعر الحديث هم مع عوض في حين يقف مع شاكر أنصار الشعر القديم ثم ازدادت المعركة شراسة حين دعا عوض إلى استخدام العامية وترك الفصحى لأنها ليست لغة الشعب فمن العملي استخدام العامية لتعميم الثقافة  ومعالجة هذه الازدواجية بين لغة الحياة والشارع ولغة الكتب والمدرسة ومن دواعي صدق الكاتب والشاعر استخدام لغة الحياة التي هي لغة عموم الناس بل دعا إلى ترجمة القرآن إلى العامية حتى يفهمه الناس العوام ويتم التخلي عن الوسطاء بين الله والناس وما أولئك الوسطاء سوى شراح النص ومفسريه وهو في هذا يشبه الإسلام بالمسيحية وكهانها في العصر الوسيط  وقد أسخط هذا كثيرا من المثقفين ومن رجال الدين في مصر والعالم العربي فالدعوة إلى العامية تفك الرابطة القومية فهناك عاميات وليس عامية واحدة على شاكلة العامية المصرية والعراقية والمغربية والحجازية وسوف يكون النص العامي المصري غير مفهوم  للمغربي والنص السوداني غير مفهوم  للعراقي  وكمثال وتطبيق على ذلك إن الحوار في قصة "عرس الزين" مثلا للطيب صالح يصعب فهمه لكونه مكتوبا بالعامية السودانية وكذلك الحوار في "عودة الروح" لتوفيق الحكيم يعسر على الفهم بسبب كونه مكتوبا كذلك بالعامية المصرية ومن مهام الفنان كاتبا كان أو شاعرا أو مفكرا  أن يرتقي بعقول الناس وأذواقهم لا أن يسف ثم إن العامية قاصرة عن  التعبير عن مكنونات النفس  ،محدودة الرؤية والآفاق لا تصلح لغة للأدب ولا للعلم والحق أن الدعوة إلى العامية بدأت في الغرب أثارها التبشير والاستشراق والاستعمار منذ أن قدم  المستشرق السويدي لاندبرج ورقة بحثية في مؤتمر المستشرقين بليدن عام 1883 وكان من دعاتها في مصر الألماني كارل فلرس وولمور الإنجليزي والألماني سبيتا  وولكوكس  وكان المستر دنلوب  الذي جاء مصر مبشرا قد عينه كرومر سكرتيرا لوزارة المعارف في مصر  فتولى تخريب التعليم بجعله خادما للمصالح الاستعمارية في تخريج متعلمين قطعوا الصلة  بتراثهم وانبهروا  بالغرب  فشكلوا طبقة بيروقراطية تخدم بإيعاز من الاستعمار مصالحه الكبيرة ومصالحها الفردية  وتشكل بورجوازية ممالئة مفصولة عن عامة الناس تخضع لعقدة الدونية  إزاء الآخر المحتل وتشعر بالازدراء لتراثها العريق ،ترطن بلغة المستعمر وتتنصل من لغتها الأم  - اللهم إلا عاميتها - وقد تركت الباحثة الأكاديمية الراحلة نفوسة زكريا سعيد كتابا هاما ومرجعا أكاديميا لكل باحث في قضية الفصحى والعامية جديرا بالقراءة هو "تاريخ الدعوة إلى اللغة العامية وآثارها "والجدير بالذكر أن مجلة المقتطف كانت مع هذا الطرح في استخدام العامية وكان لفيف من المثقفين مع العامية على شاكلة أحمد لطفي لسيد وبعض كتاب الأهرام ومثقفيها وقد قسا شاكر على الأهرام التي أسسها بشارة تقلا في نهاية القرن متهما إياه بالعمالة للاستعمار حتى إنه  زار عرابي في سجنه وبصق في وجهه نكاية وتشفيا فيه وفي ثورته التي أراد بها تحرير مصر من الخديوية والانتداب البريطاني.

ثم أثيرت  قضية أخرى تشعب عنها السجال الذي كان يشتد كثيرا  فيغوص في الأعراض وفي السلوك الشخصي وفي المرجعيات والعلاقات الخاصة وكانت هذه المرة دعوى لويس عوض بعدم أصالة الفكر الإسلامي فمنذ أن كتب أن المعري تأثر باليونانيات منذ لقائه براهب دير الفاروس عاد هذه المرة يقول أن القرآن والحديث  هما حاشية على متن يهودي مسيحي  لأن الراهب سرجيوس أو نسطوريوس هو من تولى تعليم النبي محمد وهذه فرية رددها المستشرقون كثيرا بل قال بها اليهود المعاصرون للنبي وسجل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرنا(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين).

ما يميز سجال محمود شاكر ولويس عوض أنه سجال شغل الرأي العام بسبب توغله في قضايا حساسة جدا كاللغة ،الدين ، القرآن، الحديث ،المصادر العربية الأولى وانقسام الرأي العام بين مؤيد لهذا أو ذك فقد رآها البعض معركة الإسلام ضد العلمانية تارة والشيوعية تارة أخرى أو الرجعية والتحديث ، فقد كان اليسار مثلا متضاما مع لويس عوض ومعظم المثقفين دعاة الحداثة خاصة في الشعر  الذين درسوا في الغرب وإطارات النظام في ذلك الوقت ومؤسساته فقد كان العهد ناصريا وكان عوض  يشغل منصب مستشار ثقافي لمؤسسة الأهرام وكان مع شاكر تيار المحافظين ونخبة  من مثقفي مصر وممن درس في الغرب ومن المجلات التي وقفت إلى صفه الرسالة والثقافة والحق أن محمود شاكر لم يكن مثل الرافعي مثلا في سجاله مع العقاد وطه حسين يعرف العربية فقط مما جعل خصميه يحملان عليه ويسخران من قصوره المعرفي فقد كان شاكر متمكنا من اللسان الإنجليزي متعمقا في الأدب الغربي وقد اعترض هو نفسه على ترجمة لويس عوض لمسرحية الضفادع لأرسطوفان واتهمها بأنها ترجمة تشوه المعنى وتنحرف عن الأصل ، وقد كان شاكر صاحب سجل حافل بالخصومات فقد جادل أستاذه طه حسين وبسببه ترك الجامعة وبسبب الخلاف حول المتنبي  جمع مقالاته التي ساجل به طه حسين في كتابه الشهير " المتنبي" ، وهو متمكن جدا من العربية وعلومها ومن الثقافة الإسلامية وحقق كثيرا من الكتب والنصوص باحترافية عالية وكان العقاد يدعوه بالمحقق الفنان ، لكنه غالى في  في معاداته للثقافة الغربية باستثناء العلم حتى قال"نعم ، أنا عدو للثقافة الغربية باستثناء العلم " مما دعا خصومه إلى اتهامه بالرجعية والظلامية والانغلاق والأصولية الدينية والتقعر اللغوي في رده على لويس  وقد آلت إليه جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة والأدب العربي  عام 1984 في حين ظل لويس عوض متمسكا بقناعاته لا يتحول عنها داعيا إلى التجديد واستعمال العامية  والانصهار في بوتقة الشعب الكادح والاقتراب أكثر من الفكر والثقافة الغربية والتخلي التدريجي عن الثقافة القديمة  وكان عراب اليسار في مصر فيما كتب من شعر ونقد وتأليف فكري وفيما أشرف عليه من مؤسسات الدولة الثقافية خاصة في العهد الناصري .

وإن كانت المعركة قد انتهت برحيلهما عن الحياة فقد كانت شاهدا قويا على الرجة الفكرية والعاطفية التي أحدثتها ثقافة العصر اليمينية واليسارية وحداثته وما بعد حداثته وفي تفاعل مثقفينا معها سلبا وإيجابا ، وإن خسر عوض قضية العامية وغالى في دعواه بعدم أصالة الفكر العربي والإسلامي فقد ربح  كثيرا في قضية الشعر الحديث وحسبه ذلك.