د. علي بن عواض عسيري يكتب:
حراك لبناني في فضاء سياسي وحزبي وثوري بعيد عن المفهوم الموضوعي للديمقراطية
لأنك تعرف لبنان وتعرفْتَ على ناسه وواكبْتَ طفرة تنموية، أخذت تشق طريقها نحو مجاراة طفرات عاشتها دول أوروبية بعد الحرب وتعيشها منذ سنوات دول الخليج التي يتسابق إليها الابتكار التكنولوجي لكي يكون له مستقر في الرياض وأبوظبي ودبي والدوحة والكويت والمنامة ومسقط، فإن مشاعر من الأسى ترافق لحظات قراءتك أو سماعك أو مشاهدتك عبْر الفضائيات للأحوال التي بات عليها هذا الوطن العزيز عليك، كما على سائر الذين عرفوه يصمد إلى حين أمام إعصارات التدخل في شؤونه، ثم لا يلبث أن تخور مقومات صموده أمام صولات وجولات الذين أدرجوا لبنان ساحة لتطلعات تفتقر إلى بُعد النظر ويتقن أصحابها إشعال البيوت ناراً حزبية وقودها التعصب الطائفي. وبالفعل غير المنزه عن السوء تغيب شمس الخصوصية اللبنانية بالتدرج، ولا تعود سماء الحياة اللبنانية بالصفاء الذي يبعث في النفس طمأنينة تعزز الشعور بالاستقرار.
يتباهى اللبناني بأنه يعيش في رحاب الديمقراطية التي بدأت نهجاً في سياسة النظام منذ أن نال لبنان استقلاله قبل تسعة وسبعين عاماً. لكن الديمقراطية تصبح علة عندما تخرج المنافسة على أمر أساسي يكاد يندرج ضمن المحرمات الوطنية. وزيادة في التوضيح يجوز القول إن هامش تلك الممارسة ينتهي، أو يجب ذلك، عند نقطة أشبه بالحاجز وهي الاجتهاد في مسألة الولاء. ولقد أوقع اللبناني نفسه في شرك الولاء لأطراف وعقائد ومشاريع خارجية وبذلك ضعفت شرايين وطنيته، وكادت تصل إلى حالة من الجفاف، عندما اعتبر هذا الطيف أو ذاك، أن مرجعيته الخارجية تتقدم على واجبه الوطني. ولكم أسمعني أصدقاء كثر ومن أهل النخبة وأيضاً يمثلون طوائفهم مدى معاناتهم من خيارات أُولي الأمر السياسي في هذه الطائفة أو تلك، وكيف أنهم يتدثرون بالمناخ الديمقراطي السائد في لبنان وهم يتحركون في فضاء سياسي وحزبي وثوري بعيد عن المفهوم الموضوعي للديمقراطية. وبلغت المعاناة أقصاها عندما دخل السلاح عنصراً في المناخ الديمقراطي.
ولقد كانت صيغة اتفاق الطائف أفضل وصفة لعلاج الداء الذي استشرى في الكيان اللبناني بعد فقدانه أو إضعاف جوهر خصوصية كانت من خلال حُسن التعامل معها إبقاء لبنان في مأمن، ثم جاء اتفاق الطائف يحاول إبراء هذه الصيغة. وعندما تتردد في وادي المحنة اللبنانية أصوات تحاول النيْل من ذلك الاتفاق فهذا لأن غواية التعصب الطائفي أو الولاء خارج حدود الوطن من جانب البعض، تتقدم على واجب الولاء للوطن ولصيغته. ولا بد من أن مشاعر الأجيال بعد حين طال أو قصر ستتلخص في عتب من جيل الزمن الآتي على ما فعله جيل الذين أمضوا بضع سنوات عجاف يترددون في أداء الواجب عند الاستحقاق الرئاسي ويبررون مواقف من خلال الاستقواء وستتزايد الأصوات التي تصدر بتحسر من هؤلاء وتتلخص في عبارات من نوع: لماذا فعلتم بنا ذلك؟ لماذا أوصلتمونا إلى هذا الأسى، بعدما كان المناخ الذي أحدثه اتفاق الطائف نشر الكثير من التفاؤل وأيقظ الكثير من القدرات الكامنة في النفوس؟
وثمة سمة بالنسبة إلى هذا الاتفاق هي فرادته. فلقد رأت المملكة بعدما أمعن اللبنانيون اقتتالاً بسلاح غيرهم وأجندات أصحاب هذا السلاح أن ورقة السلاح يجب أن تُنزع من كتاب المرحلة الجديدة التي من حق اللبنانيين أن يعيشوها. فالسلاح فتك بهم ورماهم بأوصاف لا إنسانية. ومَن هؤلاء حالهم لا بد أن يبدأوا الكتابة في صفحة بيضاء ملامح لبنانهم الديمقراطي بضوابط الطوائفي من غير تعصب المتقاسم من دون طمع الحريص من دون مغالاة البادئ حياة جديدة على قاعدة: لا سلاح بعد اليوم. ولا بغضاء بعد اليوم. وانصهار بالأشقاء المخلصين بدءاً من اليوم.
ومن خير الأقدار أن الشقيق المخلص والحادب والمتفهم لطبيعة الخصوصية اللبنانية والحافظ الود منذ الاستقلال وحتى ما دام لبنان نجمة في سماء العروبة، كان المملكة العربية السعودية. لم ترسل سلاحاً ولا أنشأت ميليشيا طوال سنوات حرب السبعينات. ولم توظف قدراتها عربياً وإقليمياً ودولياً لتحقيق مشروع له صفة الوصاية. أعانت ونصحت دائماً تحت خط خروج لبنان من نفق الاقتتال المظلم إلى أن دقت ساعة تفعيل النصح وتطويره وتدارُك لبنان قبل أن يتهاوى. لم يتقدم أحد غيرها للواجب لأن المقومات متوفرة لديها.
لقد كان مؤتمر الطائف جامعاً الشمل مثل منظمة الأمم المتحدة بمعنى أن فيه مَن يمثل كل الأطياف وأما الذين لم يتمثلوا فإنهم خسروا وإن كانوا بعد حين ترأسوا البلاد وأوغروا صدور البعض للانقضاض على صيغة ما كان للبنان أن ينهض لولا التوازن الذي صيغت فيه. كما أن صبغة اتفاق الطائف قريبة الشبه بروحية مجلس التعاون الخليجي ومنظمة الوحدة الأفريقية تجمع كل منها الشمل من دون أن يعني أن الاختلاف في الرأي من المحرمات. فالمهم هو التوجه. كما بالنسبة إلى اتفاق الطائف ثمة ما يعزز ثوابت بنوده إنما ليس في إعادة نظر وليس في العبث بروحية الإنجاز، وإنما معاودة التشاور في لقاء يقتصر على الرؤساء الثلاثة (الجمهورية. البرلمان. الحكومة) ومعهم الرؤساء السابقون ورؤساء المؤسسات الأمنية ورؤساء الطوائف، ونخبة من المرجعيات القانونية والدستورية. لقاء تشاوري يحسم أمر الاجتهادات غير المنزهة عن الغرض، ويؤخذ بما قد ينتهي إليه التشاور لجهة تعديل في بنود أو توضيح لها أو حتى التوصية بإصدار مادة أو أكثر لم يلحظها في حينه اتفاق الطائف.
بذلك لا يعود الحديث حول ما يتصل باتفاق الطائف يتجدد، ولا يعود لبنان على هذه الفرادة في التخبط كل ست سنوات عند مَن يترأس الجمهورية ثم تباعاً مَن يترأس الحكومة فضلاً عمَن يترأس البرلمان.
لقد طوى الذين شاركوا في جلسات مؤتمر الطائف صفحات الاتفاق لمجرد أن عادوا وتصرفوا على أساس أن المؤتمر كما الاتفاق الذي انتهى إليه هو مصالحة سياسية وأن أهميته في أن الحرب انتهت، مع أن واجب هؤلاء كانت عقْد ندوات شعبية في كل المحافظات والأقضية تشرح للناس هذا الاتفاق وتبين لهم كم أن هذه البنود التي تضمها الاتفاق بدءاً المبادئ العامة تحديداً للوطن ودور الرئاسات وسائر المؤسسات هي مثل الأعمدة الصلبة للمبنى الشامخ. كما كان واجباً أساسياً إدراج الاتفاق مادة في الكتاب المدرسي التربوي الوطني والتركيز لدى الجيل الطالبي على ما ينص عليه الاتفاق بالنسبة إلى ثلاثة أمور أساسية، وبذلك لا تعود الرؤية ضبابية لدى الجيل الجديد. والأمور هذه كما ينص عليه الاتفاق «لبنان وطن سيد حر مستقل. عربي الهوى والانتماء. الشروع في إلغاء الطائفية السياسية». إن تثقيف الأجيال على مدى ربع قرن تلا الاتفاق على أهمية هذه الأمور كان سيشكل مناعة في النفوس فلا تعود الأعداد بالألوف لا ترى في لبنان ملمحه العروبي، وفي الوقت نفسه يصار إلى تثقيفها ميليشياوياً يتباهى الشاب بالسلاح بين يديه. وسنة بعد أُخرى تجد لبنان اثنين وشبه كيانيْن وثقافتيْن وولاءيْن. وهذا في حد ذاته لا يبشر بوطن واحد موحد ومستقر.
ما يتمناه المرء للبنان هو أن تصونه صيغته من عاديات أهوال تلوح في الأفق الدولي وتنعكس مخاطر على الأفق الإقليمي. إن هذه الصيغة هي الحامي له والموحدة لشعبه. كما تزداد أهميتها بتعزيز المؤسسة العسكرية بكل أنواع السلاح الآخر ما ظهر منه وما هو طي السراديب يتم إيداعه في عهدة الجيش وبأثمانه يصار إلى إنشاء مشاريع تنموية وبناء مدارس وكليات في مناطق تحتاجها، وهكذا لا يعود الوطن في مرمى المخاطر وبعد ذلك يبدأ الشروع بكتابة الصفحات الجديدة في كتاب لبنان الديمقراطي ذي الحزبيْن، كما في معظم الدول الديمقراطية الخالية من ظاهرة الأحزاب والجمعيات التي للكبار منها وللصغار أجندات لا تخدم الوطن ومستقبل الأجيال في شيء.
إن وقفة من التأمل ومحاسبة النفس أكثر من ضرورية لكي لا تتهاوى أعمدة الهيكل على الجميع. وما وصفه اللقاء التشاوري الذي أشرنا إليه تستضيفه الرياض وتحيطه بالتشجيع وتيسير أوجه الخلاف دول مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية والأمم المتحدة إلا أنها خير الوصفات تضيف المزيد من الفاعلية لوصفة اتفاق الطائف، وبذلك تقوى المناعة في جسم الوطن المعتل بين حين وآخر من جائحة هوى الجار البعيد على حساب الشقيق القريب. وعلى الله الاتكال.