د. صبحي غندور يكتب:

عوامل ثقافية واجتماعية هامة في الانتخابات الأميركية

ستترك الانتخابات "النصفية" الأميركية (لكلّ أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ وعدد من حكام الولايات) المقرّرة يوم 8 نوفمبر الحالي، مزيجاً من التأثيرات السياسية داخل أميركا وخارجها. وستختلف هذه الانتخابات في معاييرها عن مثيلتها "النصفية" في السابق. فالحملات الانتخابية المشتعلة الآن تؤكّد ارتفاع نسبة القضايا الاجتماعية والثقافية في معايير الناخب الأميركي ومدى حدة الإنقسام السياسي بين اتباع الحزبين الديمقراطي والجمهوري. صحيح أنّ الأوضاع الاقتصادية هي الأهم بالنسبة للمواطن الأميركي لكن الصراع الفعلي هو على كيفية رؤية مستقبل أميركا: هل ستكون دولة يحكمها من هم من اصول أوروبية بيضاء كما كانت عليه الولايات المتحدة منذ نشأتها، أم دولة ستهيمن عليها الأقليات العرقية والإثنية، وخاصة من هم من اصول افريقية ولاتينية؟!.

إنَّ أميركا تعيش في هذه السنوات الأخيرة مزيجاً من حالات التمييز الديني والثقافي ضدّ المهاجرين الجدد عموماً، إضافة إلى مشاعر عنصرية ضدّ الأميركيين الأفارقة ذوي البشرة السوداء. وهذه المشاعر بالتمييز على أساس لون أو دين أو ثقافة هي الّتي تهدد وحدة أي مجتمع وتعطّل أي ممارسة ديمقراطية سليمة فيه.

إنّ الانتخابات الأميركية هي الآن بوضوح معركة بين نهجين مختلفين في قضايا كثيرة داخلياً وخارجياً. وتبرز في الحملات الجارية عناوين القضايا المختلَف عليها فعلاً داخل المجتمع الأميركي وجدّية الانقسامات الأيديولوجية والاجتماعية لدى الأميركيين، وأولويّة مفاهيم ثقافية ودينية واجتماعية في معايير الكثير منهم لدعم أي مرشّح.

الآن، وبعد وجود إدارة "ديمقراطية" حاكمة في "البيت الأبيض" والكونغرس لحوالي السنتين، نجد المجتمع الأميركي ما زال يعيش حالة انقسامٍ شديد بين مؤيّدي دونالد ترامب وما يرمز إليه من "أصولية أميركية"، وبين معارضيه الذين ينتمون إلى فئاتٍ متنوّعة اجتماعيًا وثقافيًا وعرقيًا، لكن يجمعهم الهدف بضرورة عدم إمكانية إعادة ترشّحه للرئاسة في العام 2024. فعلى سطح الحياة السياسية الأميركية هو صراعٌ بين "الحزب الجمهوري" والحزب الديمقراطي" بينما الصراع الحقيقي هو الآن بين "أميركا القديمة" وأميركا "الحديثة"، بين الماضي وبين المستقبل، حيث شهدت وتشهد الولايات المتّحدة متغيّراتٍ كثيرة في تركيبتها السكّانية والاجتماعية والثقافية، ولم يعد ممكنًا العودة بها إلى الوراء.

وربّما هو الوقت المناسب الآن لكي يُراجع قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتّحدة، والشعب الأميركي بشكلٍ عام، ما حصل في أميركا من "ظاهرة ترامب" وانعكاساتها الخطيرة داخل الولايات المتّحدة وخارجها.

لقد اشترك الحزبان الجمهوري والديمقراطي في خروج القاعدة الشعبية لدى كلٍّ منهما عن رغبات القيادات التقليدية، حيث ظهر دونالد ترامب في الحزب الجمهوري، وبيرني ساندرز في الحزب الديمقراطي، وكان الأوّل تعبيرًا عن هيمنة تيّار يميني متهوّر عند الجمهوريين، والثاني (أي ساندرز) كان تأكيدًا لقوّة تيّار يساري متنوّر ظهر عند الديمقراطيين منذ المؤتمر الحزبي في العام 2004، وتكرّس بفوز باراك أوباما في العام 2008.

لكنّ فوز أوباما في انتخابات العام 2008 لم يكن حتمًا ثورةً ولا انقلابًا في المعنى السياسي على ما هو قائمٌ في الولايات المتّحدة من مؤسّسات تصنع القرار عمومًا، بل يمكن اعتبار أنّه كان بمثابة "حركة تصحيحيّة" من داخل النظام الأميركي نفسه، بعد أن أوصلت إدارة بوش الابن "النظام السياسي الأميركي" إلى منحدرٍ ما كان يجب أن تهوي إليه.

بالمقابل، فإنّ ظاهرة فوز دونالد ترامب برئاسة "البيت الأبيض" في العام 2016 يمكن اعتبارها انقلابًا مضادًّا على الذي حدث عام 2008 لناحية المفاهيم الاجتماعية والثقافية الأميركية التي سادت لقرونٍ عديدة. فقد فشل القسّ جيسي جاكسون في السابق بالحصول على دعم الحزب الديمقراطي له بالترشّح لانتخابات الرئاسة لأنّه أميركي أسود، رغم موقعه الديني المسيحي وجذور عائلته العميقة في أميركا. أيضًا، فشل المرشّح الديمقراطي للرئاسة عام 1988 مايكل دوكاكس أمام منافسه جورج بوش الأب، بسبب عدم ثقة قطاعٍ كبير من الأميركيين ب"وطنيته" الأميركية لأنّه ابن مهاجر يوناني حديث، وأنّ عائلته لم تتأصّل في التاريخ الأميركي، ولم تنحدر من "الأنجلوسكسون" الأبيض المسيحي البروتستانتي! وكان جون كنيدي أوّل رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة الأميركية، ولم يأتِ بعده كاثوليكيٌّ آخر للرئاسة الأميركية إلى حين انتخاب جوزيف بايدن بعد ستّة عقود!.

إذن، انتخاب أوباما في العام 2008 كان صدمة كبرى لجملة "مفاهيم وتقاليد أميركية" متأصّلة تاريخيًّا، لكنّها غير منسجمة أصلًا مع نصوص الدستور الأميركي، ولم تعد لها قيمة لدى الجيل الأميركي الجديد، في ظلّ مجتمعٍ تتزايد فيه أعداد المهاجرين غير الأوروبيين، والذين سيشكّلون خلال عقدين من الزمن غالبية عدد السكّان في الولايات المتّحدة.

هكذا هي الآن أميركا، وهكذا ستكون معاركها الانتخابية القادمة، إذ لن تكون فقط حول الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي تطغى أحيانًا على سطح الإعلام، بل حول المسائل المرتبطة بالدين والعرق والثقافات. أي ستكون معارك سياسية حول كيفيّة رؤية أميركا للمستقبل وللاتّجاه الذي سيسير نحوه المجتمع الأميركي.

لقد كان من الصعب في القرن الماضي التمييز بعمق بين برنامجيْ الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن حتمًا في محصّلة السنوات الأخيرة، أصبحت الخلافات تتّسع بين رؤى الديمقراطيين والجمهوريين لأنفسهم ولمستقبل أميركا ولعلاقاتها الدولية. ووجدنا هذه الفوارق واضحة في الانتخابات الرئاسية الماضية.

ومن المهمّ الانتباه دائمًا إلى أنّ فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية في العام 2016 لم يكن العامل الأساس فيه شخصه ولا طبعًا مؤهّلاته أو خبراته المعدومة في الحكم والسياسة، بل كان العامل الأساس هو الصراع الدفين الحاصل في المجتمع الأميركي بين المتمسّكين بأميركا الأصولية القديمة، التي قامت على الرجل الأوروبي الأبيض البروتستانتي، والعنصري أحيانًا، وبين أميركا الحديثة "التقدّمية" والتي أصبح أكثر من ثلث عدد سكّانها من المهاجرين من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

فجماعات "أميركا القديمة"، وهي وإن نجحت في إيصال ترامب للرئاسة في العام 2016، فإنّها لم تستطيع وقف التقدّم الأميركي نحو مستقبل مختلف عن معتقداتها، بسبب طبيعة التغيير الديمغرافي الحاصل داخل المجتمع الأميركي. لكن هذا لا يقلّل من شأن ودور هذه الجماعات، والتي أصبحت "الترامبية" رمزًا لها، خاصّةً في ظلّ الانقسامات الحاصلة داخل الحزب الديمقراطي وعدم توفّر قيادة "كاريزمية" له في هذه المرحلة.

فالمجتمع الأميركي يسير نحو التطرّف بالاتجاهين المتعاكسين لأسباب موضوعية تزداد فعاليتها في هذا القرن الجديد. وما ينطبق على القوانين العلمية الفيزيائية يصحّ أيضاً على المجتمعات والشعوب حيث لكلّ فعل ردّة فعل موازية لقوّته، ولذلك سيقابَل التطرّف اليميني الذي تعيشه الولايات المتّحدة بتطرّفٍ نحو اليسار لدى المعارضين له، وهو أمرٌ يتجاوز بكثير مسألة الانقسامات السياسية والأيديولوجية ليشمل ما هو أخطر على وحدة المجتمع الأميركي وعلى الأمن الداخلي المُهَدد بزيادة غير مسبوقة في اقتناء الأسلحة وفي استخدامها العشوائي في أكثر من ولاية أميركية.