د. أنور محمد موسى يكتب لـ(اليوم الثامن):
دروس عربية مُستفادة من كأس العالم في قطر
غزة
مونديال كأس العالم حدث عالمي يشكّل فرصة لتجمّع طيْف من مختلف الأجناس و الثقافات البشرية في البلد المضيف، و بالملايين حول شاشات التلفاز. و بمناسبة إنتهاء هذا الحدث، حُقّ لنا أن نبارك لكل الشعب العربي الأداء المشرّف للمنتخب العربي المغربي خلال المونديال، و انجازه الرائع بتأهله لنصف نهائي كأس العالم. و كون هذا الحدث قد تم استضافته في بلد عربي، فلنا النصيب الأكبر من ثماره الإيجابية و دروسه المُستفادة، حيث نستطيع القول أنّ الشعب العربي قد فاز "بثلاثة كؤوس ذهبية" مثّلت تتويجاً لما يلي:
- تأكيده القاطع على وحدته كشعب واحد من المحيط إلى الخليج من خلال المظاهر المتتعدّدة التي شاهدناها و شاهدها العالم أجمع في قطر ، و هي- بالتأكيد- ليست مجرد "فورة عاطفية" و إنما تعبير صادق ينبع عن إقتناع عقلي مبني على الحقائق و التجارب التاريخية. الشعب العربي يعرف - و بصورة فطرية- أنّ تاريخه مشترك و لغته واحدة و هويته جامعة و دينه واحد (في معظمه). و يدرك أنّه أولى بأن يجمعه وطن موحد من كثير من الإتحادات العالمية مثل الهند و الصين و روسيا، التي يتكون كلٌّ منها من العديد من القوميات و الثقافات و الأديان و اللغات المختلفة و مع ذلك أوطان موحدة! و الشعب العربي متيقّن أيضا أنّ الحدود التي تفصله هي حدود مصطنعة،و لا أساس لها، أُقيمت من قبل أعدائه لتفتيته. و الأهم من ذلك أنّه قد إستنتج من التجارب المريرة التي عايشها و يعايشها أنّه لن يستطيع مواجهة تحدياته المصيرية- و ما أكثرها- في ظل وضعه الحالي المفكك.
- إلتفافه حول قضيته المركزيّة فلسطين بصورة جليّة و مبهرة، لأنه يعرف أنّ الكيان الصهيوني زُرع في قلب الأمة العربية لتفتيتها و عرقلة أي أمل أو توجّه لنهضتها، و ليس فقط لإحتلال فلسطين. و قد لمس الشعب العربي عبر تاريخه المتواصل أنّ التآمر على منطقتة العربية يتم بصورة أكثر تركيزاً بسبب الحقائق التي تميزها كملتقى لثلاث قارات، و كخازنة لثروات طبيعية متنوعة، و كنقطة تقاطع للحضارات العالمية الرئيسية القديمة، و كمهد للأديان السماوية، ما جعل العالم عامة و الغرب خاصة ينظر إليها كبؤرة كامنة لصراع الحضارات. هذا الإلتفاف الراسخ و النابع عن فهم عميق و واقعي لمجريات الأحداث السياسية فاجأ الأنظمة المُطبّعة ، و أثبت أنّ ما فعلته لا يمثّل- بأيّ حال من الأحوال- إرادة الشعب، و أنّ على دوائر القرار في العالم أخذ ذلك بعين الإعتبار.
- تنظيمه الحضاري – عبر قطر- لأفضل تجمّع عالمي في كأس العالم على مر التاريخ، ما أدي لكسر الصورة النمطية السلبية و الغير حقيقية- التي رسمها الإعلام الغير محايد للشعب العربي في أذهان العالم. لقد دُهش من حضر من شعوب العالم من ثراء الثقافة و أصالة القيم العربية و الإسلامية، و من دقة التنظيم و دفء العلاقات الإنسانية التي يتمتع بها الشعب العربي برغم المآسي و الإعتداءات الظالمة التي تعرّض و يتعرّض لها.
و لكن، و برغم النتائج الإيجابية الرائعة، التي ذُكرت سابقا، يتوجّب علينا- كعرب- الإنتباه لما يلي:
- برغم انّ الرياضة بمختلف أنواعها هي حاجة ضرورية- لا غنى عنها- لصحة الإنسان الجسدية و النفسية و من ضمنها لعبة كرة القدم، الّا أنّ الألعاب التنافسية سواء في كأس العالم أو غيرها تخضع لإعتباراتٍ أخرى. فلا يجب اعطاء الفوز في كأس العالم أو في أي بطولة أو مباراة معينة أكبر من حجمها كمجرد لعبة تخضع- بالتأكيد لتدريب و إعداد شاق- و لكن أيضا لعامل الحظ. إنّما الفوز الحقيقي للشعب هو في إمتلاكه لمصادر غذائه و دوائه ، و عندما لا نجد أحداً يضطر للسفر للخارج من أجل العلاج. و في توفّر- ليس فقط- أساسيات الحياة الكريمة له و إنّما أيضا سبل و إمكانات الإبداع و الطموح و تحقيق الذات. الفوز الفعلي هو بالإهتمام بالنهضة العربية العلمية الشاملة في كافة المجالات عبر وجود مختبرات البحث و التطوير في أفرع العلم المختلفة، و عبر رفع نسبة البحث العلمي من الدخل القومي لتتماشى مع متطلبات العصر. الفوز المنشود هو في قدرة الدولة على التصنيع الذاتي لسيارة حديثة أو جهاز خلوي- مثلاً- أو تكنولوجيا فائقة تنافس للتصدير في الأسواق العالمية. و في القدرة على الإطلاق الذاتي للأقمار الصناعية و صناعة الطائرات، و كل مستلزمات الدفاع لصد و مواجهة التحديات الخارجية. الفوز الأهم هو بناء الإنسان العربي عبر استنهاض طاقاته، و في وجود جهاز قضائي تُقاس قوة الدولة بقدر قوته و شفافيته و إستقلاليته.
- العاطفة الزائدة التي تتميّز بها الشعوب الشرقية و منها الشعب العربي لا تتماشى مع متطلبات العصر الحديث. فلا يجب إعطاء خسارة مباراة للعبة، أيّاً كانت، أكبر من حجمها، و كأنّ الأمم تُقاس قوتها و تطورها بفوزها بكأسٍ أو بمنافسة رياضية ما! هناك دول كثيرة لم تفز بالتأهل لكأس العالم و لكنها تسيطر على مقدّرات العالم. و هناك دول فازت بكؤوس كثيرة و لكن شعبها يعاني من الفقر و الجوع و انهيار للخدمات الأساسية. العاطفة كانت مهمة لشحذ الهمم في الماضي عندما كان الإنسان يعتمد على ذراعه في العمل و الدفاع عن نفسه و بلده،أمّا الآن فالعاطفة مكانها البيت و العائلة فقط،. قوة الدول-الآن- تعتمد على مؤسسات تتكامل مع بعضها البعض، و تسيّرها فرق عمل تتبنّي خطط استراتيجية معتمدة على المنهج العلمي، و يقودها العقل. و في النهاية، يجب ألاّ نغفل عن أنّ بعض الحكومات تستغل الدوريّات الرياضية و العاطفة الملتهبة تجاهها لإلهاء الشعب و صرفه عمّا هو أهم من اللعب!