عريب الرنتاوي يكتب:

السعودية وإيران والمرأة بينهما.. من يكسب "معركة الصورة"؟

لا أظن أن أحداً في السعودية أو إيران، فكّر أو خطط لفتح جبهة جديدة في "معركة الصورة" بين البلدين، ميدانها هذه المرة، حقوق النساء ومكانتهن.

لكن المراقب للجارتين اللدودتين، لا تفوته ملاحظة، أن معركة غير مباشرة، قد ألقت بثقلها عليهما، وأن النساء في البلدين، هنّ ساحتها وموضوعها، وأن "معركة الصورة" فرضت نفسها على الطرفين المتصارعين، والأرجح من غير دراية أو تخطيط من أي منهما.

نساء المملكة يعشن مرحلة ذهبية بامتياز، بعد أن تخلصن من "الشرطة الدينية" أو "المطاوعة"، الذين طالما وقفوا لهن بالعصي والمرصاد. يقدن السيارات والطائرات، وكل ما يدب على الأرض، ويمارسن مختلف الرياضات، حتى أنهن سيستقبلن بعد أيام، البطولة الدولية الودية لكرة القدم النسائية.

نساء المملكة يزحفن بقوة نحو سوق العمل والأعمال، بحجاب أو من دونه، وهن منتشرات في مختلف ساحات الترفيه والمقاهي والاستادات، وحكاية "المحرم" طوت أو تكاد تطوي آخر صفحاتها، بالقرار الذي صدر مؤخراً والذي يقضي بالسماح للمرأة بالتسجيل لموسم الحج القادم، بمحرم أو من دونه، بـ"عصبة نساء" أو من دونهن.

نساء الجمهورية يواجهن في المقابل، واحدة من أصعب لحظات حياتهن بعد مقتل مهسا أميني في أحد مراكز التوقيف على يد "شرطة الأخلاق"، وهي شرطة دينية بامتياز، وطبعة إيرانية من نظام "المطاوعة"، مئات النساء تعرضن للقتل والاعتقال والملاحقة، وأزيد منهن من الرجال والشباب، جراء الصدام بين جمهور لديه 100 سبب وسبب للغضب والاحتجاج، وأجهزة أمنية، تجد صعوبة في فهم حقيقة أن إدارة المجتمع في القرن الحادي والعشرين، بأدوات وأحكام العصور الغابرة، لم يعد أمراً ممكناً بحال من الأحوال.

صحيح أن "بوليس الأخلاق" قد سُحِبَ من الشوارع، وأن النساء يمارسن اليوم قدراً أعلى من الحرية في انتقاء طريقة وضع الحجاب، لكن الصحيح أيضاً، أن قراراً رسمياً بحل هذه الشرطة، لم يتخذ، وتشريعات جديدة لم تسن، والباب مفتوح أمام شتى الاحتمالات والتطورات.

في المملكة، ثمة من يقول إن الانفتاح الاجتماعي والثقافي والفني، ليس في واقع الحال سوى سعيٍ من ولي عهد المملكة لتحسين صورته التي لحق بها أفدح الضرر بعد حربه على اليمن، وجريمة مقتل (وتقطيع) جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، فضلاً عن رغبته في إعادة رسم صورة جديدة للمملكة، التي قيل في وصفها ما لا يقال: "مملكة الظلام"، وحصن التطرف وقلعة التشدد ونبع الإرهاب.وهذا صحيح تماماً، وليس ثمة ما يدعو لإنكاره أو التنكر له.

لكن الصحيح كذلك، أن الأمير الشاب، الذي وضع لنفسه وبلاده هدفاً محورياً، تدور حوله كافة السياسات والتشريعات والإجراءات، وترصد من أجله الموازنات الفلكية: رؤية 2030، يدرك تمام الإدراك، أنه من دون "ثورة ثقافية" شاملة، سيصعب عليه تحقيق رؤيته، فمجتمع السياحة والاستثمار والترانزيت، لا يستقيم مع هيمنة متوحشة للمؤسسة الدينية المتشددة، ورجالاتها المبثوثين في الشوارع والميادين، لمطاردة كل من يسقط حجابها، أو تتكشف عباءتها عن "مقطعٍ" من ساقها.

"الثورة الثقافية" السعودية، حاجة وأولوية سعودية أولاً، تسهم ثانياً، في إعادة رسم الصورة، صورة المملكة وصورة ولي عهدها، وهذا ما يفسر السرعة الجنونية التي ينطلق فيها قطار التغيير الاجتماعي والثقافي في بلاد "خادم الحرمين الشرفين".

في الجمهورية، التي تستظل بظل "الولي الفقيه"، ما زال هناك من يعتقد بأن "الشرعية الدينية" هي المصدر الأسمى لشرعية "ولاية الفقيه"، وأن المجتمع الإيراني يؤمن بغالبيته بهذه الشرعية، وعليه استتباعاً أن يتقيد بمقتضياتها ومندرجاتها، ومن بينها التزام "اللباس الشرعي" و"الحجاب"، وأن كل ما جرى ويجري في الأشهر الأربع الفائتة، إنما هو "مشروع فتنة" مدبر من الخارج وفي ليل بهيم، وأن الأعداء يخططون لجعل بعض الأخطاء المتفرقة التي يقارفها نفرٌ من مؤسسات إنفاذ القانون، بمثابة حصان طروادة للوصول إلى الداخل الإيراني، بعد أن فشلت سياسات الحصار والعدوان في تقويض نظام "الثورة الإسلامية"، وأن الإعلام الغربي و"بعض العربي" متورط في تضخيم حجم الاحتجاجات والنفخ في قيرها، لأعراض لا تخفى على أحد.

السردية الإيرانية الرسمية، تعيد إنتاج سرديات رسمية عربية تكاثرت كالنبت الشيطاني في عشرية الربيع العربي، بما فيها حكاية التضخيم والنفخ، وأخفقت جميعها في منع سقوط الأنظمة، أو تسويق وتسويغ روايتها، فلماذا تظن طهران، بأن حظوظها في تسويق ذات الرواية، ربما تكون أفضل من حظوظ غيرها؟ وهل فعلاً نجحت هذه الرواية في إخماد تمرد الشارع؟ وإن كان الحال كذلك، فلماذا الاضطرار إلى اللجوء إلى الاستخدام المفرط للقوة لقمع الاحتجاجات، المستمرة حتى الآن في الأطراف على الأقل، والتسبب في مقتل المئات وسجن الآلاف من شباب وشابات الحركات الاحتجاجية؟

إيران تواجه تحدياً جدياً، لا يعالج بالإيغال في "حالة الإنكار" وتعليق الأخطاء والخطايا على مشاجب الخارج والآخرين، والاحتجاجات التي أعقبت مقتل أميني، بدأت تأخذ طابعاً "قومياً – مذهبياً" أشد خطورة، بدلالة استمرارها في الأطراف، وهدأتها في طهران.

في المملكة، التغيير يأتي من فوق لتحت، ويحمل في طياته بعض مظاهر "الفجور" والخروج عن المألوف التي تصاحب عادة، "ثورات ثقافية" بهذا الحجم، وتتسبب بموجة اعتراضات صريحة ومكتومة، وهذا صحيح، لكن ما يتعين أخذه بنظر الاعتبار، أن سرعة وتيرة التغيير، والانتقال من بلد عاش لعقود وقرون في قبضة أكثر المدارس الدينية تشدداً إلى بلد يريد أن يتخطى بيروت والقاهرة ودبي والدوحة، كمركز جذب للفنون والترفيه والرياضات وغيرها، لا بد أن ترافقها ظواهر كهذه.

وفي الجمهورية، يأتي التغيير من تحت إلى فوق، ولقد رأينا مظاهر مشابهة، وإن كانت أقل فجوراً وصخباً، صدرت عن المحتجين والمحتجات، فالمجتمع الإيراني، أكثر عمقاً واستقراراً، ولم تفلح "الثورة الثقافية" في إيران، التي يعاد النظر اليوم في بعض جوانبها تحت ضغط الاحتجاجات، في إلغاء سماته وخصائصه كليةً

.إيران بخلاف السعودية، سبق وأن خبرت في عهد الشاه "ثورة بيضاء"، وفي عهد مصدق "ثورة استقلالية"، ولطالما كانت مسرحاً للتعدد والتنوع، المسموح والممنوع، سياسياً وفكرياً وحزبياً، قبل أن "تأكل الثورة الكثير من أبنائها"، بخلاف المملكة التي قامت على تحالف العائلة الحاكمة مع المدرسة الوهابية، وتوحدت بالسيف، جغرافياً واجتماعياً وثقافياً.

في المملكة كما في الجمهورية، تغيب الحريات والحقوق السياسية وإن بأقدار متفاوتة. التعدد من داخل النظام، مسموح به في إيران، أما من خارجه، فيعرّض المختلفين لأوخم العواقب. في السعودية، باب الحريات السياسية مغلق، وربما كان التوسع في فتح أبواب الحريات الشخصية بديلاً أو تعويضاً عن تمنع النظام عن فتح المجال العام للتعددية السياسية والفكرية والحزبية، وهذه ملاحظة جديرة بالاهتمام والبحث والمتابعة.

في المملكة كما في الجمهورية، ما زالت طريق النساء لانتزاع حقوقهن الكاملة، مديدة ومريرة، لكن المملكة سجلت في السنوات القليلة الفائتة فوزاً بالنقاط في "معركة الصورة"، وفي المقابل، خسرت إيران هذه المعركة بالنقاط كذلك، وربما تخسرها بـ"الضربة القاضية الفنية" كما يقال في لغة "الملاكمة"، إن ظلت إنكارها وتنكرها لحقيقة أن زمن "قفص الحريم" قد ولّى إلى غير رجعة، وأن من مصلحة إيران، ألا تندرج في الترتيب الثاني بعد أفغانستان/طالبان، في قائمة البلدان الأكثر انتهاكاً لحقوق النساء.