طارق فهمي يكتب:

السودان.. معادلة التوازنات بين الخيارين السياسي والعسكري

تتجه الأوضاع الراهنة سياسيا وعسكريا في السودان لمشهد مفتوح على مصراعيه بصرف النظر عن فرص وقف إطلاق النار وسعي الأطراف المعنية الأفريقية والعربية والدولية للتوصل إلى حل ولو جزئي.

وهو ما يشير إلى أن كل السيناريوهات التي طرحت في الفترة الأولى من اندلاع الأعمال العسكرية تبقى في إطارها النظري ليس أكثر، مع افتراض أن مرحلة ما بعد توقف المواجهة ستُبنى على أسس ومرجعيات جديدة، وهو ما سيمثل تحديا كبيرا للقائمين بالوساطة بالرغم من رفض الأطراف السودانية أي تدخلات مطروحة رغم أن كل الأطراف المعنية أبدت استعدادا حقيقيا للتدخل، وهو ما يمكن وصفه بأنه سعي للاستمرار في مشهد قد يطول، ولن يكون سهلا لإعادة توجيه البوصلة مجددا في اتجاه ما يجري، فالجانب الأمريكي، ومن ورائه الأمم المتحدة قادران على ممارسة أكبر قدر من الضغوطات على الطرفين، وإلا فإن الإدارة الأمريكية ستتجه إلى فرض العقوبات على أسماء قادة الصراع، وعدد من قيادات المواجهات الراهنة، في إشارة إلى أن الولايات المتحدة قادرة على العمل في اتجاه مباشر لو أرادت، وخلصت إلى اتباع استراتيجية الحسم، بدلا من المناشدة والترجي لكل طرف مثلما جرى من تدخل الجانب الأفريقي سواء على مستوى قادة منظمة إيجاد، أو المفوضية الأفريقية، إضافة إلى دول الجوار الإقليمي، التي تتابع بقلق ما يجري، خاصة أن أي ارتدادات مطروحة ستشمل كل الأطراف الرئيسية، وستعمل في اتجاه معاكس قد يؤدي إلى مزيد من التوترات الرئيسية، والجوهرية التي تمس أمن الجوار الإقليمي.

ومن ثم فإن الحديث عن استمرار العمل العسكري، ورفض كل الوساطات سيعني امتداد النهج التصاعدي وإفشال كل الجهود الراهنة للتوصل لوقف، ولو جزئي، لإطلاق النار، الأمر الذي يعني أن الأوضاع في السودان مرشحة لمزيد من التصعيد، خاصة أن القوى الداعمة لكل طرف لديها أهدافها في استمرار المشهد، وهو ما تضعه كل التقييمات الاستراتيجية في اعتبارها، خاصة أن السودان دخل من قبل في دوامة المواجهات العسكرية، وله تاريخ طويل من المواجهات الدامية التي عكسها تطور الانقلابات العسكرية تباعا، مما أثر على مستوى الاستقرار الهش في السودان.

والواقع أنه قبل اندلاع المواجهات العسكرية كانت هناك تحفظات مكتومة داخل المكون المدني، الذي ما زال يراقب ما يجري، انتظاراً إلى حالة الحسم الواردة وإلى أين تتجه الأوضاع العسكرية ليتقرر السيناريو التالي، الذي ستحكمه ضوابط متعددة متعلقة بمسارات مختلفة، خاصة أن وقف إطلاق النار سيرتب توزيعا حقيقيا للقوة المركزية على الأرض، بل سيدفع لخيارات وسط لترضية كل طرف، فالخلاف الكبير على مرجعية اتفاقية الإطار لن ترتبط فقط بدمج قوات الدعم السريع فقط، والمدة المقترحة لذلك، بل ستمتد بالفعل إلى المهام والأولويات وتبعية القوات، وهل ستكون لرئيس الوزراء المنتخب مثلما كان، وماذا عن مخرجات سلسلة اللقاءات التشاورية التي تمت في فترات سابقة، والتي تحكمها معايير جديدة في حال تقبل وقف إطلاق النار، وبدء مرحلة جديدة من المهام وتهدئة الأوضاع الأمنية في ظل إجراءات بناء الثقة التي تعمل في اتجاهات محددة، ومن المهم التأكيد على أن المرحلة التالية سواء استمرت العمليات العسكرية أم تم التوصل إلى تهدئة حذرة سترتبط بعدة أمور.

أولها: استمرارية العملية السياسية أيا كان شكلها أو إطارها المقترح ومرجعياتها في هذا الإطار، وهل يمكن أن تكون وفق اتفاقية الإطار، أم سيتم التفاوض على أرضية مختلفة يمكن الانطلاق منها، بمعنى تصويب مسار الاتفاق السياسي في ظل واقع جديد يمكن أن يفرض نفسه، أم سيتم تعديل كل ما تم نهائيا، أو حتى مرحليا، والانتظار لما سيتم في ظل التعامل مع قوات الدعم السريع على أنها قوات "متمردة"، وحركة مسلحة شأنها شأن سائر بعض الحركات الأخرى الموجودة في الساحة السياسية، ولم يتم دمجها بعد، وكان لبعضها تحفظات على ما يجري، والإشكالية ستكون كيف يمكن البناء مجددا على ما تم في ظل واقع سياسي مختلف، ويمكن أن يكون مدخلا لأي تسويات مقترحة.

ثانيا: استمرار القوى الدولية الداعمة للتحول السياسي على مواقفها في حال انفراج المشهد السياسي، وعدم الاستمرار في العمل العسكري وفق سيناريو وارد، وهو ما قد يدفع دولا مثل الولايات المتحدة للاتجاه إلى فرض العقوبات، أو دفع الأوضاع لحافة الهاوية كما كانت الأوضاع مع إدارة الرئيس ترامب، والتذكر بعمق ما جرى أثناء وجود السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، بل سيُنظر للسودان على أنه مرتع لتصدير الإرهاب إلى دول الإقليم.

والرسالة أن هذا الأمر سيرتبط فعليا بما ستمضي إليه كل السيناريوهات السياسية والعسكرية، التي قد تتقاطع في سياسات محددة، وفي مرحلة معينة يمكن الاحتكام إلى عناصرها الرئيسية التي تعد موجها لما سيجري.

ثالثا: احتكام الطرفين؛ القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، إلى القوى الداعمة، وهي معلومة وتعمل في ظل حسابات منضبطة ومباشرة، ولا يمكن التوقع أن ترفع هذه الدول المعنية يدها مما يجري في السودان، خاصة أن الرهانات الكبرى ستمضي في إطار مصالح كل طرف، وتوجهاته التي يعمل من خلالها، وبالتالي، فإن تشابك التحالفات الإقليمية والدولية العاملة في السودان سيحسم بعض الخيارات المطروحة، التي ستذهب في التعامل مع السودان بصفته دولة، وليس نظاماً، أو قوة سياسية أو عسكرية إلى أن يكون دولة فاشلة، وهذا الأمر تتخوف من ارتداداته دول الجوار الإقليمي، التي ترى أن مسارات ما سيجري ستكون بالفعل الذهاب إلى صدامات حقيقية، وليست مجرد مواجهات لينضم السودان إلى النموذج الليبي، وهنا مكمن الخطورة التي يمكن أن تواجه دول الإقليم الأخرى، التي تتحسب لكل الخيارات، خاصة أن الذهاب إلى العملية السياسية مجددا سيؤدي لمزيد من العمل العسكري على الجانبين لتحسين شروط التفاوض السياسي، كما هو معتاد مع التوقع أنه لا يوجد سيناريو واحد يمكن أن يحدث في ظل تدخلات عدة، ومسارات معقدة يمكن أن تذهب إليها الأوضاع الراهنة، والمتوقعة في السودان، التي يجب التحسب لتداعياتها على كل المستويات.

ولهذا، فإن ما يجري من تحولات في المواقف، وتبدل في التوجهات، سيرتبط بالنظر إلى الأوضاع الجارية عسكريا وسياسيا على أنها جزء مهم من مسلسل قد يذهب السودان إلى حالة من التعثر السياسي والأمني حتى مع التوقع بسيناريو إيجابي، فالواقع يشير إلى ترقب القوى السياسية، والحركات المسلحة للمشهد لإعادة بناء المواقف، الأمر الذي قد يطرح مقاربة مغايرة لما هو قائم بالفعل، ويتجاوز ما كان موضوعا في اتفاقية الإطار، التي قبِل بها كل الأطراف شكلاً مع بقاء الإرادات الراهنة، والمواقف الحقيقية كما هي.

ومع استمرار المشهد الراهن عسكريا وسياسيا، فمن الممكن أن تتغير الرؤى من جديد لندخل في دائرة فراغ حقيقية في ظل ما يطرح للعودة لبناء المسار السياسي مجددا دون تأخير، وهو أمر بات مشكوكا في تفاصيله، حيث لا تلوح في الأفق بوادر لما يطرح في ظل تركيز كل الوسطاء على هدف أولي، وهو وقف إطلاق النار ثم البحث فيما يلي.

إن إشكاليات ما يجري في السودان ستبدأ بالفعل حال توقف إطلاق النار، طال أو قصر، وهو ما سيدفع للبحث مجدداً عن صيغة جديدة على آثار اتفاقية الإطار لبدء العمل، والانطلاق وفق معادلة سياسية حقيقية يمكن أن تكون مدخلا لبدء مسار العملية السياسية، كما كان متوقعا، وعدم الاصطدام مجددا مع التباين في الرؤى، أو المقاربات التي حكمت إدارة المشهد الداخلي في توقيتات معينة قبل استئناف المواجهات العسكرية، والانقلاب على الواقع الذي كان سيضع السودان على بدايات الطريق الصحيح في ظل التوافقات الموضوعة حتى ولو كان عليها بعض التحفظات من قبل بعض الأطراف التي اتضحت بعد تجدد المواجهات الراهنة بين الجانبين، والمرشحة لمزيد من التجاذبات في الفترة المقبلة.