أحمد شحيمط يكتب لـ(اليوم الثامن):
المغاربة وسؤال الهوية
الهوية المغربية موضوع شديد الحساسية والتعقيد معا والسبب يعود إلى تنوع الخطابات الدائرة اليوم عن معنى الهوية والانتماء والأصل، كل خطاب عن الهوية اليوم في المغرب يقدم نفسه على أنه يمتلك الحقيقة، ويقدم رؤية تروم الصواب والدقة، خطاب يتموقع بين الذاتي والموضوعي، وبين المعرفي والأيديولوجي، خطاب ينتج مجموعة من التصورات المعرفية عن الهوية في بعدها النفسي والاجتماعي والتاريخي ، يستند الخطاب على المكون اللغوي والديني والهوية في المستوى البيولوجي والجديد في علم الحفريات.عندما يقال أن أقدم إنسان عاقل يعود إلى 300 ألف سنة عثر عليه بموقع "جبل إيغود" بنواحي مدينة اليوسفية، هذا الإنسان الإفريقي الأول هو الإنسان العاقل، والقول هنا أن بداية البشر وأصله من إفريقيا، وعلم الحفريات لا يمكنه صياغة مثل هذه التعميمات إلا بنوع من الحيطة والحذر لأن هذا الإنسان كما يقال ينتمي للأفارقة ومتميز عن سكان شمال إفريقيا، ويتولد عن هذه النتيجة نوع من الشك العلمي، وعدم التسرع في تعميم الحكم أو عدم الركون في تحديد الهوية استنادا للعنصر الطبيعي لأن الهوية بعناصرها المركبة والمستمرة في التاريخ والمكان غير منفصلة عن عناصر مهمة. الهوية ليست معطى قبليا ولا بناء جاهزا ومكتملا، إنها من وجهة نظر المفكر المصري"حسن حنفي" حالة نفسية، وكونها موضوع ميتافيزيقي فإنها مشكلة نفسية وتجربة شعورية. فالإنسان قد يتطابق مع نفسه أو ينحرف عنها في غيرها، وبمعنى آخر، الهوية عناصرها مركبة ومختلفة، عناصر ثابتة ومتغيرة، أصيلة ودخيلة، مبنية على المطابقة والاختلاف، مزيج من العناصر المشتركة بين الجماعات والأمم، وحدة متكاملة من العناصر الفريدة والمتفردة .
الهوية نسق متكامل تتضمن الروابط والوشائج والصلات الثقافية والتاريخية، قائمة على التطابق والتناقض، واحدة في الأصل ومتعددة في المكونات، والنظر إلى الهوية من خلال الخطاب السياسي والأيديولوجي دائما يفرز تيارات رافضة وناقمة على شيء اسمه التعدد والتنوع، نوع من الإقصاء الممنهج للهوية الأصلية، واستبعاد مقصود للهوية التاريخية، التي جعلت المغاربة مميزين عن شعوب أخرى، سواء في الشرق أو الغرب أو الجنوب، في قوة الخطاب المهيمن هنا، لا يجب جر المغاربة إلى الحضارة الغربية بمكوناتها وأسسها الفكرية والنفسية، ولا لمكونات الحضارة الشرقية بمكوناتها الدينية والثقافية، لأن الخطاب هنا يجب أن يكون مميزا من حيث الرؤى والتصور، الذي تنأى فيه الهوية المغربية عن ما هو دخيل في كيانها. فلا يمكن القفز على التاريخ، وإنكار احتكاك المغاربة بالحضارات السابقة في الشرق أو الغرب والجنوب كذلك، الهوية ما يكون به الشيء متميزا عن غيره من حيث الخصائص الذاتية، الهوية بناء مستمر، قواسم مشتركة بين الجماعة الواحدة، الهوية حسب"أمين معلوف" لا تتجزأ ولا تنقسم بل هوية واحدة، عناصرها مختلفة، تتشكل من اللغة والدين، والتاريخ والتقاليد، والطقوس والطموحات والأهداف، غير مكتملة لأنها منفتحة ومتشعبة، وفي قلبها تتسم معالم ومحطات جديدة، كما تستوعب الهوية عناصر ثقافية جديدة، والأخطر حسب أمين معلوف أن تتحول الهويات عن مسارها الصحيح ليعلو صوت العنف والتدمير، وهنا تلتقي الهويات القاتلة مع الخطاب الأحادي، خطاب الهدم ونسف التعايش وإذكاء نزعة الانتقام والكراهية عن معرفة أو جهل بحقائق التاريخ، والهوية العالية القيمة هي التي تجدد من نفسها، وتعيد النظر في منطقها، والتي يمكن تلخيصها في كرامة الإنسان وحقه في الوجود، لذلك نجده في كتاب"الهويات القاتلة" يجري المماثلة بين الهوية وحيوان الفهد، هذا الحيوان المفترس يقتل إذا طاردناه، ويقتل إذا تركناه طليقا، والأسوأ أن نتركه جريحا في الطبيعة، بل يستحسن في عملنا أن نروضه، وعملية الترويض للهويات تنبني أولا على فكرة الفهم، وثانيا الاستيعاب والإدماج، وأن تتحول المعارك العنيفة من الإقصاء إلى معارك سياسية وفكرية داخل المؤسسات، معارك اللسان والبيان بقوة الحجة والعمل داخل الهيئات لأجل بناء ديمقراطية، ودولة القانون، وبالتالي تذويب الهويات القاتلة وميلاد الهويات النافعة .
البحث عن الهوية في الجذور حسب "أمين معلوف" لا يغدو أن يكون هراء لأن الجذر ثابت، لا يتحرك، والناس يليق بهم الاقتران بالطرق التي تقودهم من مكان لآخر، وبذلك لا يحب الجذور لأنها تتوارى في التربة، تتوارى في الوحل ، تنمو في الظلمات، وتبقى الشجرة أسيرة منذ ولادتها، الهوية لا تترك أحدا على الحياد، توقظ في الإنسان شعلة من الكرامة والعزة، تتحول إلى سلطة قهرية على الرقاب، ولا تسمح بالاختلاف، لأنها تستمد طغيانها من هيمنة جماعة معينة بشعارات ثابتة، توقظ نار من الحنق والسخط إذا كانت الهوية مغيبة ومستبعدة، ويمكن أن تتحول إلى هوية جامعة وموحدة، تتحول إلى هوية قاتلة واستئصالية. المؤرخ المغربي "عبد الله العروي" في كتابه "مجمل تاريخ المغرب" يعود للوراء، إلى الزمن الغابر من الأمة المغربية، يستعمل المؤرخ كلمة المغاربة، وأحيانا كلمة البربر، ويحاول أن يفهم قيمة الأعمال والمنجزات التي تميز فيها المغاربة بالقوة والإبداع في مجال التجارة والفلاحة والصناعة، يحاول أن يبسط للقارئ فكرة الانفتاح في الذهنية المغربية والعلاقات البينية مع الفينيقيين والقرطاجيين والرومان والوندال والعرب، لا يغفل فكرة الصراع والحروب التي قامت بين المغاربة كأمة عاشقة للحرية والتحرر والأمم الأخرى، المغاربة أتقنوا الفنون والصنائع، يغرسون الزيتون والتين والقمح قبل أن يتصلوا بالفينيقيين في القرن العاشر قبل الميلاد، المغاربة قبل الفينيقيين تميزوا بظاهرتين كما يقول العروي: وحدة اللغة والحضارة، وازدواجية نمط العيش، المغرب هنا بأقسامه الثلاث: مغرب صحراوي، ومغرب وسطي، ومغرب مفتوح. في مغرب الوسط، كانت هناك ممالك قبل حلول الرومان، وهنا يقدم العروي آراء سريعة ودقيقة عن وضع الحضارة المغربية الضاربة جذورها في التاريخ، وكون المغرب مجال مفتوح، ظل محط أطماع باقي الكيانات، أما التأثير بين المغاربة والآخر فقد كان متبادلا في مجال التمدن واللسان وبناء الجيوش، وعندما يحس المغاربة بالهيمنة والسيطرة، يسعون للثورة والتمرد والرفض، ثورة المغاربة ضد قرطاج، ومن هنا يرفض العروي نتائج الدراسات الاستعمارية التاريخية، والدراسات الكولونيالية في مجالي السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، ويقبل الأفكار بتحفظ وحذر، يبدي التساؤل عن بعض المواقف من قبيل أن المغرب وقع ضحية للإسلام، وأن المغاربة لم يدركوا الطابع الحضاري الروماني فوقعوا ضحية هجمة بني هلال . يرفض دراسات الغربيين عن دور الاستعمار في تمدن المغرب وتعليم أهله تقنيات الزراعة.
المستوى التاريخي حسب العروي يعرفنا بتاريخنا وقيمنا، وهوية المغاربة كأمة قائمة من زمن طويل قبل ولادة الكيانات الاستعمارية، المغاربة على تفرد طبائعهم لم يكونوا منعزلين أو منغلقين على ذواتهم، بل كانوا أكثر انفتاحا على أمم أخرى. الهوية الخاصة بالمغاربة تتشكل وتنحل وتعيد بناء ذاتها من جديد، الهوية موحدة العناصر المشتركة، ومكونة من العناصر الجديدة التي نمت في قلب المجتمع فأصبحت جزء من المخيال والذاكرة الجماعية، الهوية كل ما يشكل المعنى، ويؤسس لشبكة من العلاقات الاجتماعية المتينة والمتراصة، يرفض المغاربة الغلو والتقليل، ينصرفون عن الشيء ويتوحدون من جديد، مجتمع انقسامي، ينقسم، ويتوحد من جديد، يحاربون ويجنحون للسلام، صورة المغاربة كأبطال في الحروب الطويلة من زمن الرومان والعرب والاستعمار الفرنسي، صورة موثقة في الأرشيف الغربي عن الشجاعة في صعود القمم وركوب أمواج الخطر، صورة أخرى كما يرسمها عبد الكبير الخطيبي، مزيج من الأفعال الظاهرة والخفية، تركيب من المحاسن والمساوئ بعيون سوسيولوجية، المغاربة كانوا يتركون للشمس تنظيم أوقاتهم وأنشطتهم، المغربي ينمحي أمام السلطة، ويتنصل من الخطأ، فهو كائن تجزيئي وإشكالي، لا يحب العزلة، ويجيد فن الأدب والترحاب بالآخر، وهذا الأمر كما قال الخطيبي يترك نوع من الدهشة والإعجاب لدى الأجنبي، فكل الأشياء تحل بكلمة، ولا مشكلة هناك، الهوية مجموع السمات الثابتة والمتغيرة والتي تطبع الشخصية المغربية، لكنها مختلفة باختلاف الأغراض والمصالح، هوية المغاربة مركبة، متنوعة العناصر ومتداخلة الأبعاد، وفي عمقها تتجلى الشخصية المغربية، ويتحدد المكون النفسي والاجتماعي والثقافي، هوية مفتوحة على أزمنة لا حصر لها، لذلك تجد أن المغاربة مولعون بالتنوع والتعرف على الثقافات، هذا ما يسميه البعض بالعامية "تمغربيت" في واقعها يرتسم المغربي بصفاته وخصائصه المعتدلة والمركبة، ككائن يهوى الجماعة، ويعيش معتزا بقيمه وهويته المغربية. يكفيك أن تكون مغربيا في العادات والتقاليد واللباس واللغة والمأكل والحفلات والولائم، وكل المظاهر المادية المشتركة، المغربي يضفي على ذاته مظهرا ينسجم مع تراثه، يجسد الرمزي والروحي، يقدم للعالم قيمه وتراثه في قالب فني فلكلوري، مزيج من التقليد والحداثة، عناصر متفاعلة من البداوة والحضارة .
الهوية تفاعل الأصيل مع عناصر دخيلة من أجل التثاقف والإدماج أو الرفض والنقد، المغاربة ألوان وأجناس، جغرافية ممتدة وغنية بقيمها وتقاليدها. فالمجتمع المغربي مركب ونسيج متواصل كما قال "باسكون" و"جاك بيرك"، يعج بالتنوع والتناقضات معا، ومن يفهم سيرورة التطور للمجتمع المغربي يدرك لا محالة أن الخطاب الأحادي لا يمكن أن يكون دقيقا في صياغة الهوية المغربية، المغاربة شعب قديم، والمغرب حضارة عريقة وممتدة جذورها في إفريقيا، يتنفس أهلها هواء شرقيا من خلال الإسلام واللغة العربية، وشعبها عريق بلغته وهويته الأمازيغية، ممتد نحو الغرب جغرافيا لقربه من أوروبا، ومن الغرب يرتوي كذلك، من النهضة الغربية والاحتكاك بأوروبا عسكريا كما هو الشأن في الحروب الاستعمارية أو بفعل العولمة والهويات العابرة من هناك بفعل الهجرة والتكنولوجيا، وعلاقات الشراكة في المجال الاقتصادي والتجاري. منفتح على مكونات متعددة. فالدستور المغربي 2011 حدد معالم وأبعاد الهوية المغربية بانصهار مجموعة من المكونات، العربية، الإسلامية والأمازيعية، والصحراوية الحسانية، هوية غنية بروافدها الإفريقية والعبرية والأندلسية والمتوسطية، هذه المكونات تغضب بعض الأصوات في الحركة الأمازيغية لاعتبار أن الأصل في الهوية هي الأمازيغية، وكل العناصر هي مجرد توابع لها، فلا مجال للقول بهذا الخليط المركب لأن في الأمر نزعة تغريبية استلابية،هناك خطاب"عروبي" قومي وديني يسطر عناصر الهوية، ويلتف على أحقية المغاربة في هويتهم التاريخية. خطاب مفعم بالتاريخ ومؤسس على دراسات في العلوم الإنسانية، يستمد أصوله الفكرية من مرجعيات حقوقية وتاريخية، ويقدم نفسه في الساحة الثقافية والسياسية بشتى الأجنحة، المعتدلة منها والراديكالية. ليس خطابا مثيرا أو مميزا إذا كان يميل للتعصب والإقصاء عندما يرفع شعارات معادية، ومطالب غير صالحة للنقاش ضد كل ما هو عربي وإسلامي، والمفاضلة في تدريس لغة الأجنبي على اللغة العربية، ورفع العداء ضد الإفريقي من جنوب الصحراء، والانسحاب من المؤسسات العربية والإسلامية، خطاب استئصالي وذو حمولة عالية من الأيديولوجيا المزيفة، لا تنبع من قناعة المغاربة كشعب منفتح وعاشق للحرية والتعايش. خطاب يناور من وراء ستار المطالب الحقوقية، وشعار المظلومية، يكون هذا الخطاب أقرب إلى خطاب القومية العربية في مراحلها الأولى ضد القوميات الأخرى، والرفع من شأن العنصر العربي. الأفضل أن يكون خطاب الاعتدال أقوى إذا كانت المشروعية واضحة والغايات نبيلة.
سؤال الهوية عند المغاربة هو سؤال جديد في واقع دولي ومحلي دينامي يعج بالتناقضات، وميلاد الحركات الاحتجاجية، ويقظة القوميات في العالم، وتنامي الهويات المعتدلة والهويات القاتلة، سؤال في الهوية مشروع من قبل الكيانات والجماعات التي تعتقد أنها مهمشة ومستبعدة في قيمها وتراثها الذي ناله الحيف والتقليل، ولم يأخذ نصيبا يستحقه كمكون أصلي لأمة عريقة، الهوية هنا عامة ولا حرج في تعميم الثقافة المغربية بشتى منابعها، المغاربة في تاريخهم كانوا يدونون كتبهم ويقدمون خطبهم باللغات المحلية، وهي الأمازيغية والعربية، سؤال الهوية جديد من خلال صعود الحركات المحلية الداعية لإعادة النظر في المكونات، إعادة طرح الأسئلة الكبرى عن دوافع التعدد اللغوي والثقافي والهوياتي في قالب جديد بأدوات معرفية، تتشكل من القراءة الخاصة بالعلوم الإنسانية، والرؤية التاريخية للماضي والحاضر، فلا حرج أن يهتم المغاربة بأصولهم، وطرح سؤال في الذات والهوية على غرار ما يطرحه مفكري العالم اليوم، عن الهوية الروسية مع "ألكسندر دوغين"، والهوية الأمريكية مع "صامويل هنتغتون"، والهوية العربية، وكيف تكون عربيا مع المفكر"عزمي بشارة"، الأمر المبهر في سؤال الهوية، هو تنامي البحث في الذاكرة والمخيال الاجتماعي، سؤال فلسفي في خصائص الأنا وتشعب المكونات، وعلاقة الذات بالآخر، عن المغرب العجيب والغريب، المغرب المتفرد والمستقل في وجوده وكيانه، بقد ما يقدم لنا السؤل أجوبة جاهزة وأحيانا ممزوجة بالبعد الإيديولوجي في الأحكام القطعية والنهائية وأحيانا في الفكر الاستئصالي، بقدر ما يعود بنا السؤال إلى جدونا كمغاربة لأننا نقف عند هوية عابرة ومتسلسلة، هوية ثابتة ومتغيرة، دينامية ومتحركة، ترتوي من المكان وعبق الزمان، تتجه الهوية للتشكل وإعادة النظر من جديد في الرواسب، وكل ما تم تشكيله في الذهن من خصائص لا زالت تفعل فعلها في المكون الثقافي والنفسي والاجتماعي، ويكفي أن تقول دائما أنا مغربي سواء كنت تعتقد أنك عربيا أو أمازيغيا أو أنك عبرت من المتوسط، ودخلت من جنوب الصحراء، أو أجدادك من الأندلس. الإنسان المغربي التصق بالطبيعة، روحه عالقة في المكان، أنتج الفنون وأدوات التعبير، صنع لنفسه تاريخا، ولازال هذا البلد يشكل أفقا للتفكير والتعبير، ومطلبا للحرية والتحرر من خلال سعي المغاربة جميعا نحو بناء دولة ديمقراطية تتسع لكل المكونات، يطبعها التعدد اللغوي والثقافي .