أحمد شحيمط يكتب لـ(اليوم الثامن):
جدلية الصراع بين الخير والشر
الصراع بين الخير والشر أزلي ومستمر ولا يمكن بأي حال هزيمة الشر واستئصاله نهائيا ، الخير والشر في الطبيعة الانسانية، يقبع الشر ويطفو ثم يختفي بنهاية أسبابه ودوافعه، فهناك مجموعة من العوامل التي تغدي ميل الانسان ونزوعه نحو الفعل، الخير شعور نمتلكه اتجاه فعل ما، والشر بدوره نزوع نحو الفعل الذي يصيب الانسان بأضرار. فالخير لا يلغي الشر، ولا يعني انتصار الخير على الشر يؤدي لانمحاء الشر، إنهما يسيران بطريقة متلازمة، يتقدمان في خطوط متوازية، والحضارة الانسانية بقدر ما تسير في خط تصاعدي وتراكمي يمكن إصابتها بانتكاسة للعودة الى الوراء، ولذلك نعاين صعود وأفول الحضارات ونترقب الحروب والنزاعات، ونحلل الدوافع الكامنة والظاهرة، ونرغب في التصدي للشر والتقليل من الاحتقان والاندفاع، أفضل للبشرية أن تمضي الى ما وراء الخير والشر، تربية الانسان على الفضيلة والحكمة، تهذيب الانسان باللذة النافعة، وسلامة العقل والبدن، وتحقيق الاختلاف والتنوع والكشف عن زيف الخطاب المشوه للحقيقة واليقين ،لا بد من تأصيل جديد للأخلاق والاعلاء من قيمة الانسان المنتصر على ذاته والحد من كل نزوع نحو الشر أو هكذا نفهم مع الفيلسوف"نيتشه" في تصوره لما بعد الخير والشر من خلال النقد الجدري للحكم على قيمة القيم ومشكلة المعنى .
نمتلك تقديرا للخير والشر، تقدير ذاتي وموضوعي، نرغب في فهم دوافعهما، ونترقب الانقلاب والاختلال في النظر إليهما، الخير والشر في قلب الرؤية الفلسفية، ثنائية الخير والشر تحكم العالم منذ زمن طويل، والصراع بينهما لا ينتهي، ولو اعتقد العالم في تعميم الخيرات وتحقيق الوحدة الاممية بين الشعوب وانصهار الحضارات والتقائها في المستوى المادي والانساني، لا بد أن تنتج الثقافات ما يمكن أن يعجل بالشر ويقلص من تعميم الخير، لا بد أن يكون للخير دوافع التعميم والفائدة، بل نلمس في عالم اليوم طابع التعميم للفكر الواحد، وعولمة الثقافة مما يفقد الثقافات قيمتها، ومنذ انهيار جدار برلين والعالم يسير على خطى القطبية الواحدة، تبلور هذا النظام العالمي الذي وضع معالم الثقافة الجديدة، وتسلح هذا النظام بكل الاليات والادوات الممكنة، من ثقافة السوق والاعلام الموجه، والميديا بأشكالها والديمقراطية الليبرالية، خرج هذا النظام والمدافعين عنه بفكرة نهاية التاريخ وهيمنة النموذج الاحادي والصائب في السياسة والاقتصاد والثقافة، أفضل النماذج الممكنة في عالم اليوم، أفضل للرخاء والحرية والتقليل من الصراعات الدولية، وبديلا عن الانظمة الشمولية والحكم الفردي المتسلط، بديلا عن الشيوعية والقبضة الحديدية، وديكتاتورية الدولة القمعية، بعيدا عن الفاشية والنازية والحركات الاصولية الراديكالية، ونتج عن هذا النظام العالمي الجديدة، سيادة التفكير الاحادي وهيمنة الرؤية الليبرالية للحياة، والسيطرة على صناعة المعنى، وتوجيه الاعلام نحو التنميط والاستهلاك، يعني هيمنة نمط واحد من الثقافات، فجأة دخل العالم في مرحلة جديدة من الحرب على ما يسمى الارهاب، وهذا يعني كما قال الفيلسوف الفرنسي «جان بودريار" قولا فلسفيا يتعلق بانهيار التوازن بين الخير والشر، هناك صدمة كبيرة لكل من اعتقد بنهاية الشر وتعميم الخير في مجالات عدة كالعلم والتكنولوجيا وحقوق الانسان والديمقراطية، لأن النماذج التي شيدها الفكر الغربي متطابقة وتاريخه في النضال السياسي والاجتماعي، وتعميمها ليس بالممكن في عالم لازال يصارع الاستبداد السياسي، ويرغب في إقامة أنظمة متماثلة وثقافته . تفكيك الفيلسوف للخطاب الغربي والخطاب المضاد يظهر رغبة الغرب في استعمال القوة، والضغط على كل من يرغب في الانفلات من ثقافته.
يقدم الغرب صورة ذهنية عن الاخر العنيف ويموضعه في خانة الشر، أما الصورة التي شاهدها العالم في تفجير البرجين فكانت بليغة وقاسية ومعممة، استهدفت الحط من معنويات الغرب ورموزه الاقتصادية والعسكرية، هذا العمل حسب "بودريار" لا أخلاقي والعولمة بدورها لا أخلاقية، الخير لا يقضي على الشر، ولن ينتهي الشر بنهاية القوى المحرضة على فعله، لكل فعل تبرير ومنطق يستند عليه. فالنظام العالمي الجديد ساهم في إنتاج أشكال من الهيمنة لأجل السيادة والبقاء، ولا بد من عدو خارجي، وكل فعل لا بد أن يستند لرد الفعل في القوة والمكر، الرعب والترهيب متبادلان، من التحالف الى العداء، امبراطورية الشر وغزوها لأفغانستان، الخير هنا في التقاء الاهداف والغايات، ولما انتهت الحرب تنصلت امريكا من تقديم المساعدات للأفغان وإرساء السلام، لم يعد هناك حاجة لمجابهة الشر، بل أصبحت الجماعات التي كانت تدعمها عسكريا وسياسيا حركات ارهابية، وقوى الشر التي تهدد الحرية والنموذج العقلاني الأمريكي، وهذا يعني اختلاف الرؤية والمواقف بصدد الخير والشر. فالخوف أن يصير الشر شبح يخترق الكل، ويبقى قابعا في النفوس، ويهيمن على الفعل والسلوك، العولمة كما قال الفيلسوف بودريار تخوض صراعا مع ذاتها، ويمكن أن تؤدي إلى نشوب حرب عالمية رابعة بعد الحرب العالمية الثالثة على الإرهاب التي انطلقت من مبدأ ثابت "إما معنا او ضدنا " .
صدمة العالم عندما استعملت أدوات الغرب وإنتاجه في تدمير الرموز الاقتصادية، وكسر شوكة الهيمنة الغربية في عقر دارها، لكن الفيلسوف يلقي اللوم على العولمة ويعتبرها لا أخلاقية ولا إنسانية، يعتبر الاختلال في الشر والخير سببا في استفحال ظاهرة الارهاب، تدمير ورعب لا يستوعبه المنطق مها كانت الدوافع والاسباب، اللوم هنا كذلك على أخلاقيات الغرب وتنصله من تنمية الشعوب وعدم احترام الخصوصية الثقافية . فكل ثقافة معولمة تفقد خصوصيتها عندما تتعرض للابتلاع والذوبان . فالزيادة في العلم وتسويق الثقافة الاحادية يتطابق وهزيمة الشر، لكن على العكس، هناك قوى رافضة تتمسك بماضيها وتراثها، والعولمة لا يمكن قبولها الا كليا ودون معارضة، وإلا كانت نظرة القوي للضعيف مشحونة بالازدراء والدونية، هكذا صنفت السياسة الأمريكية القوى الرافضة للهيمنة بمحور الشر، بصمت مصطلح الارهاب على العالم الاسلامي، فتحت سجون في مناطق نائية بمواصفات لا إنسانية، واعتبرت أنها مستهدفة في قيمها وتقاليدها. فالقوى المناوئة عملت على زرع الشر في النفوس، واستهدفت الرموز، أما الشر هنا لا يمحى إلا بالحرب الاستباقية، وتجفيف منابع الارهاب ومحاربته بكل الأدوات، أما ردود الافعال فكانت عنيفة ومدمرة للكيانات المناوئة، تنامى في واقعها الشر، فصار الارهاب ظاهرة تسري في النفوس والعقول، بل شبح يهيمن ويسري في الفعل، وينذر بانهيار العلاقات الانسانية وتلاشي الحضارات، الشر هنا لا تتوقف شرارته، يتوهج ويزيد الاحتقان والشعور بالعداء المتبادل، كما تناسلت الأسئلة عن الدوافع والأسباب في استفحال الشر، كما تعالت صيحات المثقفين والمحللين للكف عن العداء السافر في حق الشعوب الرافضة للهيمنة، وأن جدور الشر يقتضي العدالة الدولية، والكف عن تقسيم العالم بين محاور للشر والخير .
جدلية الصراع بين الخير والشر تعني النفور لكل ما يفرض بالقسر من قيم معولمة، ولكل ما يصيب النسيج الاجتماعي والسياسي من تبعية وولاء، الرفض هنا للحرية وثقافة العالم الحر، وننسى أن للقوى الرافضة تاريخ وحضارة ضاربة جدورها في القدم" العراق وإيران"، جدلية الخير والشر يعني أن العالم مفعم بقوى الخير والشر معا، ولا مجال للقول مع الفيلسوف "لايبنيز" أن عالمنا من أحسن العوالم الممكنة، الشر هنا لا يقاس بمدى قيمة الخير العميم، الخير يسري والشر ظرفي، الشر هنا يتخذ تجليات ومستويات : الشر الميتافيزيقي والشر الطبيعي والشر الأخلاقي، لا ينتهي العالم باستفحال ظاهرة الشر، ولا يعني أن الخير يعمم ويصبح مجالا يسري في النفوس والحياة، غاية الانسان الزيادة في الخير والتقليل من الشر، جدلية الشر والخير يعني الصراع الذي لا ينتهي الا بالاعتراف والتطويق والتقليل إذا كانت البشرية تسعى دوما للزيادة في الخير فإن الشر يمكن محاصرته وتجاوزه بالفعل الهادف، وتلبية الرغبات والميولات والاعتراف الحضاري المتبادل بين الشعوب . الشر يؤول حسب الفعل والغاية والخير كذلك، وكل فعل إنساني يمارس إما من الافراد أو الجماعات غالبا ما يستند على دوافع الهيمنة والسيطرة، وغالبا ما يروم المنفعة، والأساليب المستعملة هنا متباينة الأهداف والنوايا .
حرب أمريكا على العراق ودافع الرد على القوى المارقة، وإرغام نظام صدام على الامتثال للنظام العالمي، القوة الناشئة في البلدان الراغبة في استقلالية القرار لا يمكنها فعل ذلك لأن النظام الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية، تقسم العالم الى كيانات فاعلة وصانعة، وكيانات أخرى تابعة وخانعة، دورها بالأساس مد الصناعة الغربية بالموارد الطبيعية واستيراد المنتجات الصناعية تبعا لنظام يحدد فلسفة السوق. فالشر يصبح لا غيا بمجرد الاذعان للسياسة الدولية، والخير هنا يعمم عندما تكون الاستجابة للهيمنة أو التماهي وثقافة العولمة . فالعالم يعيش اختلالا منذ مدة طويلة، والسياسة الدولية إن كانت مغلفة بالدوافع الاقتصادية والتجارية، لكنها في أحيان أخرى مغلفة بالدوافع الثقافية، والاصلاح السياسي، ومن الوقائع الانية الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا ، اعتبرها بوريس جونسون بمثابة حرب بين الخير والشر، الطرف المعتدي حسب جونسون هي روسيا وبالتالي من حق اوكرانيا الدفاع عن وجودها، والغرب لن يتوانى في تقديم الدعم المادي والمعنوي، الدعم السخي بأنواعه من أسلحة ومعلومات استخباراتية، وإدارة المعركة من قلب أوكرانيا، اقترب العالم من الحرب الكونية، وكل ما تحمله لنا الاخبار الواردة من عين المكان، التصعيد يزداد، والقوة تنمو نحو التلويح بالسلاح النووي ، والغرب يحذر ويندر ويصعد في إعلامه بالرد المدمر، ومعاقبة روسيا بالعقوبات الاقتصادية والعزل الدولي، الشر هنا يزداد نموا وتتصاعد حدة الحرب وتتوسع حتى تشمل أوروبا، نعاين الاحتقان ونعيش على ايقاع الحرب المدمرة، لا حديث في الاعلام العربي سوى عن نهاية العالم ومعركة اخر الزمان، لا كلام سوى عن معسكر الشر الجديد، الغرب بوصفه "الدجال" وروسيا المدافعة عن تعدد الاقطاب ، إنها تحارب من أجل خير الحضارات، وترغب أن تكون الحضارات المناوئة للغرب في صفها ، الحضارة الكونفوشيوسية الصينية والحضارة الاسلامية .
لم يعد الغرب يقدم قيما جديدة للإنسانية، تهاوت القيم تحت دريعة الحرية ، بالمقابل تعتبر روسيا الخطر الأكبر على السلم العالمي، الشر هنا ظاهر وكامن في عيون رئيسها، لا مبررات عقلانية ولا مشروعية في استعمار واكتساح بلد يتمتع بالسيادة الكاملة والاعتراف الدولي على كامل ترابه، أمريكا وكعادتها تترقب النتائج وترغب في استنزاف قدرات روسيا، تعتبر الحرب مغامرة ومجازفة، ومجرد ادعاء كاذب من الرئيس بوتين عن المخاوف اللامشروعة من احتواء روسيا والسيطرة على دول شرق اسيا، الغرب يمثل الخير وروسيا وحلفائها يمثلان الشر، قيم الغرب لم تعد كونية وشمولية، قيم خالية من الروحانيات، ومحكومة بالحرية الفردية المطلقة، لا يعتبر الغرب أن الحرب هنا دينية لكنها معركة بين الخير والشر، وهنا تضيع الحقيقة في واقع السجال السياسي والاعلامي .
تقييم للمشهد العام وللحرب التي لا تخلو من دوافع وأسباب، ولو اعتبرنا الحروب ظواهر عادية في عالم غير ثابت، للتاريخ منطقه الخاص، يتحرك نحو الامام، ويتجه بخطوات نحو التغيير، كلفة ذلك ستكون كبيرة، يرمم الانسان جراحه ويعيد تصويب الفكر من جديد. فكل الوقائع يصنعها الاقوياء بإرادة ووعي وبناء على شروط موضوعية تنضج وتؤدي الى الزيادة في شرارة الحروب، الابطال يخلقون الحدث وعندما تشتد الحروب لا يمكن التكهن بنتائجها، الأمر هنا يختلف بشهادة المتتبعين والمحللين وأصحاب فكرة "نهاية العالم" لأن الحرب الحالية لن تكون نزهة، ولا تعني فسحة، وتعود الامور الى طبيعتها، الحرب هنا بشتى أشكالها، من اقتصادية وتجارية ونووية، من حرب جزئية وخاصة الى حرب كلية وكونية، فقد أعلنت أمريكا عن حزمة من العقوبات على روسيا وكل من يساندها، وأعلنت روسيا عن وقف تدفق الغاز لأوروبا، يوجد هنا اختلال بين الخير والشر، ومنطق التعامل بالمثل يملي على القوى المتصارعة عدم التنازل وقبول المفاوضات، حتى أن التباين موجود بين مطالب الاطراف المتحاربة، والصراع الذي بدأ يطول ويتمدد مبني على مواقف ثابتة من قبل روسيا، وحقها في المدن الشرقية لأوكرانيا كما تدعي، طموحات قديمة بأهداف ووسائل جديدة. فالغرب لا يعتقد في عالم متعدد الاقطاب، يصور الصراع بوصفه اعتداء على السيادة وتقويض السلم العالمي، ولأكرانيا الحق في اختيار نظامها السياسي.
صراع الخير والشر لن ينتهيا والعالم لن يصبح متوازنا والقوى المهيمنة بالقوة العسكرية والناعمة مستمرة في لعبة القيادة والزعامة، لن تترك العالم للقوى النامية أو تعترف بتنوع الحضارات وتعدد الاقطاب العالمية، وطالما يقدم الفكر الوحيد نفسه على أنه الحقيقة واليقين، هنا تخرج الجماعات والكيانات للصراع والرفض، معركة أخرى ضد قيم العولمة، قيم لا متجانسة ولا متطابقة، إنها القيم النابعة من نهضة الغرب، وثوراته السياسية والصناعية والسياسية، وبذلك تعتبر روسيا والصين وغيرهما من الحضارات الأخرى أن العالم أقطاب وحضارات، وفرض القيم الواحدة دليل على الالغاء والاستحواذ، نهاية التاريخ في الليبرالية الديمقراطية والفكر الرأسمالي، لا يعني نهاية التاريخ الاحادي الرؤية، لكن الحروب تفرض نفسها والتاريخ غير مكتمل، وصناعة المستقبل على الخطى الغربية، لا بد ان يثمر عن حروب حتى لا يختفي الأصل وتنقرض الحضارات عندما تعمم الثقافة المهيمنة، أمريكا لن تتنازل عن الريادة، والصين ترغب في النمو وفرض مكانتها، وروسيا تعتبر ثقافة الغرب غير متطابقة، وهذا الأمر عبر عنه الفيلسوف الروسي "ألكسندر دوغين" في النظرية السياسية الرابعة، وفي نقد النظريات الغربية السياسية كالفاشية والرأسمالية والشيوعية، الفيلسوف الذي اعتبر أن الحرب الخاصة في أوكرانيا انتصار للقومية الروسية، عودة من جديدة للامة، حرب جاءت تعكس المخاوف من الحدود المشتركة بين الدول التي كانت حليفة في السابق إلا أنها اليوم انقلبت واختارت لنفسها أن تكون في حضن الغرب بعد نهاية الاتحاد السوفياتي، تراقب الولايات المتحدة أفعال روسيا، يتمدد حلف الناتو نحو حدودها بناء على تحفيزات مالية واقتصادية ووعود سياسية ، نعاين مستجدات الوقائع ، الإعلام المنحاز لا يمدنا بكل الحقائق، نهاية الشر غير واردة وتعميم الخير كذلك . ويبقى الصراع المحرك للتاريخ، والتغيير والتدافع من سنن الله في الكون .