أحمد شحيمط يكتب لـ(اليوم الثامن):

الصين تتحدى

إن نهضة الأمة الصينية لا يمكن إيقافها والتآمر عليها، والقضية النبيلة المتمثلة بالسلام والتنمية للإنسانية ستنتصر حتما، انتهى عهد التنمر والاهانة أو التقليل من قيمة الصين وشعبها العريق، انتهى خطاب التهديد والوعيد، وخطاب الاحتواء والحصار من خلال الزيادة في مشكلة تايوان، واللجوء للزيادة في  الرسوم الجمركية الباهظة . خطب الرئيس الصيني "شي جين بينغ" نابع من قناعة الحزب الشيوعي، ومن قناعة الرجل عن الريادة، والموقع الذي تتمتع به الصين كقوة مكتملة وصاعدة  في مواجه الغطرسة الأمريكية، ومواجه هيمنة الغرب على العالم تحت خطاء العولمة والنظام العالمي الذي رسمه الغرب منذ مدة طويلة، والمهيمن على السياسة الدولية في مجالات عدة : اقتصادية وتجارية وسياسية وثقافية كذلك. لا باس في إعادة رسم معنى جديد للعولمة، لا بد من رسم الممكنات في السياسة العالمية، من مبادرات خاصة بالأمن العالمي، وصيانة المصير المشترك . ملامح جديدة لاحت في الأفق من خلال رسائل بثها الرئيس "شي جين بينغ" في قمة أشغال منظمة شنغهاي للتعاون، القمة تعكس بداية للتحولات في موازين القوى العالمية، خطاب يروم بالأساس السلام كبديل للحرب الكونية، والعدالة كبديل للتنمر والإهانة، والحق أشمل من الظلم والانتقام . سياسة الصين غير عدائية، سياسة الربح للجميع بدون كوابح أو موانع لما يتعلق بالطموح الصيني في التفوق والريادة .
التحدي قائم على رهانات تتعلق بالمستوى الاقتصادي والعسكري رغم نبرة الخطاب المعتدل للصين في سياق البحث عن التكامل والتعاون بين الأمم . تقدم الصين نفسها كشريك اقتصادي، وجزء من الكوكب، لا تسعى بالذات للسيطرة على الشعوب، المنافسة محمودة، والغلبة سياسة مرفوضة لأن الصين تؤمن بضرورة عمل الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية،  تضفي قيمة مضافة وجديدة على العولمة مع تنقيحها، والزيادة في مفهومها الذي يشمل العولمة التجارية من خلال مبادرة الحزام والطريق، الربط المتين بين الشرق والغرب في إطار نظام عالمي متعدد الأقطاب، ومن خلال رفع التوقعات في التنمية والزيادة في التبادل بعيدا عن ثنائية الهيمنة والسيطرة، التنافس هنا استراتيجي ومنهجي قائم على تعميم المنفعة والتجديد، التنافس بين الأمم يولد تبادل للمنفعة والحرص على السلام العالمي . الخطاب السياسي الصيني أخرج الصين من سباتها أو على الأقل من صمتها إلى النضج في الرؤية مع التحلي بالروية والحكمة في النظر للقضايا الدولية، القوة المادية والقوة الناعمة تجتمعان في الصين، رغبة التنين الصيني في ريادة الأعمال، واستقرار الأسواق العالمية والمحلية، المبادرات الصينية بمثابة التحدي نحو البقاء، بمثابة القوة والقدرة معا على الفعل واثبات الوجود . الزمن الأمريكي بدأ يتلاشى ويتراجع نحو الوراء . أمريكا قائدة العالم وزعيمة الغرب لا ترغب في اقتسام الزعامة، ولا تستسيغ أن يكون العالم متعدد الأقطاب، أمريكا ترفض قواعد اللعبة الجديدة، تسعى دائما إلى اللعب بالأوراق، وخلط الحقائق من أجل الزيادة في التوترات، وإذكاء روح الانتقام والعداء من خلال الاحتواء ورفع الرسوم الجمركية، والحد من النمو الاقتصادي الذي بلغ نسبة 5.4%  في الربع الأول من سنة 2025 . نهج الصين في القيادة العالمية انتقائيا، وحضورها في العالم قوي على المستوى الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي، ومن خلال الاستعراض العسكري الأخير بمناسبة يوم النصر على اليابان بدأت تلوح في الأفق بوادر للسياسة الصينية الداخلية والخارجية ، مضمون الخطاب " الصين قادمة " .
الإنسانية في خطر، إما الجنوح للسلم أو الاندفاع نحو الحرب والتدمير، عسكرة بحر الصين الجنوبي أمر خطير في إطلاق أول رصاصة من طرف ما كبداية لحرب عالمية شاملة، الحوكمة العالمية أمام مفترق الطرق، الحوكمة الجيدة تساعد الأمم على بناء العلاقات المتوازنة، والصراع بين الشر والعدالة لا بد أن ينتهي إلى اعتراف الأمم بقيمة التعايش، واختيار لغة السلام. الخطاب الصيني موجه للغرب بكل أجنحته، الداعمين للسلام والحوار، والراغبين في الحرب والاحتواء. عملية الحرب الباردة تشكل تحديات جمة في ميلاد عالم متعدد الأقطاب، الحرب الباردة من زمن الأيديولوجيات، وصراع الشيوعية والرأسمالية ولى . العالم اليوم يستثمر في مستجدات الفكر البرغماتي، ورغبة الأطراف في التلاقح والتعايش، وتبادل المنفعة. الصين عالم فريد ومتفرد، شعارات متعددة نسمعها عن الصين الجديدة، زمنها الحقيقي كما يتجلى في الاستعراض العسكري نهاية الحرب العالمية الثانية، زمن الفلسفة الماوية والثورة الشعبية، الصين ونهضتها في قيادة الحزب الشيوعي الصيني، من سرعة الصين إلى جودة الصين، ومن الصين كبلد فلاحي إلى الصين كبلد صناعي متطور، خطة "صنع في الصين 2025" وخطط الصين إلى 2035 و2050، إستراتيجية الصين طويلة النفس، رائدة في مجالات دقيقة، قوة الصين في التكنولوجيا الرقمية، الريادة في تكنولوجيا البطاريات، والذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، والصناعات الحربية وصناعة السيارات والرقائق... القوة المادية من خلال العملة الصينية "اليوان"، والنمو في إنتاج بطاريات الليثيوم، والابتكار في مجال البرمجيات، ومجال التجارة الالكترونية، وكل ما يتعلق بالصناعات العسكرية، وقدرة الصين في الأعمال، وبناء الطرق، والسكك الحديدية ناهيك عن قدرتها في المجال العسكري من خلال بناء جيش منظم وقوي. جيش مدجج بشتى أشكال الأسلحة الدقيقة والعالية الدقة والفعالية، من صواريخ عابرة للقارات، وطائرات، ودبابات متطورة، وراجمات، وعربات، ومسيرات وربوتات، والصواريخ فرط صوتية. ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية. الخطر الأصفر قائم في ولادة الصين من جديد، الصين ضد الهيمنة الغربية، الصين واثقة ومتمردة، ولادة عسيرة من رحم المعاناة والاهانة، ولذلك وجدنا الصينيون يركزون على التاريخ المعاصر الذي يبدأ من نهاية الحرب العالمية الثانية، التنين الصيني ولد من الثورة الشعبية، والإصلاح العنيف في منظومة القيم والقيادة، الإصلاح القائم على الحكم الشمولي وتدخل الدولة مع الاستثمار في الرأسمال البشري بإعداد نخبة علمية وسياسية للعبور بالصين من مجتمع زراعي تقليدي إلى مجتمع صناعي، سياسة التحكم في المؤسسات والحرية في الابتكار عوامل محددة للتعامل وفرض السلطة على الجميع .
الكاتب الفرنسي الان بيرفيت في كتابه " متى تستيقظ الصين .. العالم سيرتجف " والقولة منسبوبة إلى نابليون حسب المؤرخين، السبات قبل القرن الواحد والعشرين حينما كانت الصين غارقة في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، كانت نائمة في براثن التخلف والانحطاط، منغلقة على نفسها، ومجال لأطماع القوى الخارجية . الثورة "الماوية" بقدر ما تعكس طبيعة الايدولوجيا المهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية بقدر ما تعكس رغبة الزعماء في العبور بالصين نحو الأمان والتقدم . لا بد من إزالة الفوارق الطبقية، لا بد أن تنهض الصين من الداخل، والانفتاح على الخارج، الثورة الثقافية بمثابة إعادة النظر في قواعد الحزب الشيوعي الصيني، وإعادة النظر في تاريخ الصين المفعم بالإخفاق والانكسار. كان الانتقال من الثورة الثقافية نحو الرأسمالية، ومن الشيوعية نحو التلاؤم مع الفكر القومي، والتاريخ العريق للصين، نقطة مفصلية في ولادة الصين، والانطلاق الفعلي للأمة الصينية. الفلسفة الماوية اتخذت طريقها نحو ضخ جرعة من الإصلاحات الهيكلية في المجالات الأساسية، انتقلت الصين من الثورة الزراعية إلى الثورة الصناعية والتكنولوجية . 
التحدي الكبير في ولادة الصين الجديدة بسواعد أهلها، التحديات اليوم في  التعامل مع البيئة الدولية المتقلبة بتقلب موازين القوى، وسعي الغرب نحو الاحتواء من خلال التمركز في بحر الصين الجنوبي، وعقد مجموعة من التحالفات مع الدول المجاورة، منها تايوان والفلبين وفيتنام واليابان وكوريا الجنوبية، التمركز بالقرب من الصين ومحاولة استفزازها جعل الصين في بحث دائم عن منافذ وحلول عملية للنأي بذاتها عن كل صراع مفتعل يؤدي إلى إشعال شرارة الحرب، ذلك أن الصين لا تفرط في وحدتها وتعتبر قضية تايوان وطنية، وضمن الأولويات، من خلال مبدأ الصين الواحدة فإنها تراقب عن كثب كل المتغيرات والمستجدات في تايوان، مبدأ الصين الأول لا تبادر بإطلاق رصاصة واحدة، وجاء تصريح "شي بينغ" واضحا في خطاب النصر، خطاب للتذكير والتحذير ينص على قوة الصين في الدفاع عن وطنها ومصالحه، في قدرة الصين على صيانة وحدتها، ويعتبر هذا الخطاب بمثابة خارطة طريق نحو المستقبل، لا يبنى المستقبل إلا من خلال القدرة على استثمار مكتسبات وإخفاقات الماضي والحاضر معا لصياغة بدائل في النهضة.
الاستجابة والتحدي من قبل الحزب الحاكم، ومن قبل الأمة الصينية في التجديد والاستمرارية، الحكم الشمولي وتنامي الفكر القومي، وتقاليد الكونفوشوسية، وذلك الأفق الذي رسمه القادة الجدد في الإصلاح والانفتاح على العالم ، إنشاء مجموعة "البريكس" وبنوك للاستثمار في آسيا، والتواجد في إفريقيا من خلال الاستثمار في البنية التحتية، ومشاريع عملاقة، القوة المادية تصرف في الداخل والخارج، والخوف أن تتحول الصين بفعل النمو في الرساميل والقروض إلى دولة استعمارية تجمع بين القوة المادية والقوة الناعمة، ويسقط العالم مرة أخرى في التبعية والوصاية من خلال السيطرة على الموارد، والتحكم في السيادة الخاصة بالدول عند التدخل في تغيير سياساتها. مشكلة الصين قائمة ومعروفة في النمو الديمغرافي، ومحدودية الموارد الطبيعية، وتصريف الإنتاج وأزمة العقارات، الصين اليوم بقيادة "تشي جين بينغ" خطابها معتدل ينم عن رغبتها الواضحة في الحفاظ على السلم العالمي، وهي تنادي بعالم متعدد الأقطاب، وتنادي بالتجارة الواسعة، وفتح الأسواق للاستثمارات الصينية، وتدفق الرساميل.
تعتبر الصين نفسها شريك لا يستقوي على الآخر بالسلاح والقوة. خطابها السياسي قائم على دعامات رئيسية، منها السلام والأمن والعدل والقوة، مبادئ وقناعات الحزب الحاكم في قيادة الصين نحو الريادة والعالمية، والتخطيط الطويل يستدعي النفس والصبر، والقدرة على الابتكار والتجديد . التحدي اليوم يعني أن الصين استيقظت بالفعل، ولم تعد كما كانت خانعة ومستسلمة للقوى القريبة والبعيدة، الصين الجديدة تتحدى الغرب وأمريكا في كل المجالات حتى في مجال شبكات التواصل الاجتماعي، قادرة أن تضمن الأمن والرخاء لأنها تقود العولمة بمنطق بعيد عن الليبرالية المتوحشة وقريبا من فكرة الربح للجميع، العولمة لا تعني الذوبان في المنطق الفكري الغربي، العولمة تعني تبادل المنفعة، وترك الشعوب والأمم تنظم ذاتها بمنطق ثقافتها وهويتها، الصين برغماتية الفعل والهوى، شيوعية المبدأ، وقومية القيم والهوية، الصين الصاعدة يجب أن تكون قوية ومتماسكة، موحدة ومتعددة القوميات في تكوين شعبها، نجحت الصين في تحويل التحديات والانكسارات إلى نتائج عملية مفيدة في التقدم لتصبح اليوم نموذج للرقي والحضارة.
الصين تعكس حضارة الشرق، منها انطلقت الحضارة وعبرت إلى الغرب، وإليها تعود الحضارة مرة أخرى في دورة حضارية كاملة، وتستمر في العطاء وإعادة الروح والوهج للإنسانية بعد قرون من الاستعمار والتبعية للفكر الأحادي، وللأيديولوجيات الغربية، وإذا كانت الصين تركز في مسعاها على ما هو اقتصادي وتجاري دون الإرغام على التبعية لما هو سياسي وثقافي فإن عودة الحضارة هنا مطلب إنساني لأجل بناء كوكب على التعددية والاختلاف، بناء الكوكب على الاعتراف والتعايش . دروس وعبر للعالم الإسلامي والعربي من التحدي الصيني في النهضة والتجديد مسألة غاية في المنفعة، أن تكون الشراكة معها قوية من خلال مبادرة الحزام  والطريق، والاعتراف بالأمة الصينية النابعة جغرافيا من الشرق، وفي شعوبها تتجلى الحكمة والاعتراف بالآخر بدون تنمر، وبدون استشراق وتبعية، أن نغذي العلاقة مع الصين بالزيادة في التعامل، والاحتكاك بنموذجها، وما يتوافق مع الهوية والتاريخ، وهذا الأمر يستدعي وجود دولة مركزية قوية قائمة على العدالة والحق، أهلها منتجون، مخططون، يؤمنون بالقانون وقوة المؤسسات في الإنصاف . 
صدق الرئيس الصيني في قوله الذي يلخص توجهات الصين الجديدة "إن الشعب الصيني سيقف بحزم على الجانب الصحيح للتاريخ، وعلى جانب التقدم البشري، ويلتزم بطريق التنمية السلمية، ويتعاون مع بقية العالم لبناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية". العالم اليوم أمام مفترق طرق، والنظام الدولي يشوبه الفوضى والعبث، بدأت تتلاشى القيم الإنسانية، ولم تعد الأمم المتحدة قادرة على إيقاف الحروب في العالم، نحتاج لروح جديدة تنظم العالم عل أساس السلم والعدالة، وعلينا أن نحسن الاصطفاف بعيدا عن العواطف والإرغام. إن العالم الذي يرغب الغرب في الحفاظ عليه لم يعد يفيض بالعطاء على الأمم. عالم أحادي القيم والمعنى، عالم بلا بوصلة قائم على التبعية والتقسيم غير المتكافئ للثروات والعمل، ويجب أن تصيبنا رياح التغيير من هوائها لينهض عالم متعدد الأقطاب ومتعدد الثقافات لإعادة النظر في مرجعية العولمة. رحلة الروح بدأت من الصين والأمم الشرقية كما قال الفيلسوف "هيجل"، ولدت الحضارة من التفكير والتجديد، عصارة إنتاج الإنسان عبر الأزمنة والعصور، وعودة الحضارة إلى الصين والشرق أمر طبيعي وضروري في دورة حضارية متجددة ومتكاملة تضفي على التاريخ قيمة وغاية دون أن تتوقف الحضارة عند شعوب بذاتها . وفي واقع التناقض يمكن ولادة البربرية، وميلاد الكيانات الوحشية، والإمبراطوريات المهيمنة كعودة الرومان والمغول في صورة جديدة .