أمين اليافعي يكتب:

لماذا يتم تحويل أي مظاهرة سلمية إلى غزوة

مع ظهور المجتمع المدني الحديث، ارتبطت التظاهرات في دول العالم بالفعل السلمي سواء خرجت بناء على دعوة لرفض أو الاحتجاج على ممارسة أو سياسة ما، أو لغرض التأييد والمناصرة والتضامن. بل إن الفعل التظاهري في جوهره وغايته تم ابتكاره كوسيلة جماعية مُثلى لمجابهة الممارسات العنيفة والشكل الهمجي للتعبير عن مطالب شعبية أو فئوية، وهو يُراهن في ذلك، وبشكلٍ مسبقٍ، على وعي المشاركين وإدراكهم لحجم مسؤوليتهم في الحفاظ على الأمن العام.

وللإجابة على سؤال: لماذا تنزلق المظاهرات سريعاً إلى دوامة العنف والفوضى، خصوصاً في بعض الدول العربية، ومنها ما يجري مؤخراً في الأردن، فتتحول إلى أشبه بغزوة حربية؟ علينا قراءة مشهد التظاهرات من أكثر من زاوية وبُعد.

بالتأكيد هناك جماعات ودول تسعى، وبكل ما أمكن، إلى استغلال مثل هذه الفورات الغاضبة لزعزعة الأمن والاستقرار وإدخال البلد المعني في معمعة فوضى مستدامة، وهو ما بات عليه الحال في الكثير من الدول العربية، مستفيدةً من ضبابية السياق والتباسه وتعقيداته المهولة لتفصيل مشهد التظاهرات بعناية وبما يخدم الأهداف الفوضوية التي خُطِط لها، بدءاً من الشعارات التي يجري صكها، مروراً بالفئات المستهدفة، وليس انتهاءً بالتغطية الإعلامية المكثفة وتصدير خطاب نخبوي منمق يحاول أن يضفي بُعداً أخلاقيا وإنسانياً وملحمياً على أعمال الشغب والفوضى!

وأغرب ما في الأمر أن وسائل الإعلام هذه ستختلف لغتها تماماً، في الفترة الزمنية ذاتها، وربما بين خبرين متعاقبين في نشرة إخبارية واحدة؛ فتتخلى تماماً عن خطابٍ تحريضيٍّ صريح أو مضمر لزيادة وتيرة التصعيد والعنف في بلد مُعين، لتتحدث بزهو عن فخامة التنظيم والانضباط والرُقي في مظاهرةٍ حاشدةٍ خرجت لذات الهدف في بلدٍ آخر لدرجة لم تُرم فيها قنينة ماء واحدة في الشارع، مع أن حكوماتها – كحال الحكومة التركية – لديها علاقات تطبيعية أطول وأعمق وأمتن بكثير مع إسرائيل!

وبالعودة إلى تأمل أبعاد أخرى في مشهد التظاهر والتي تُستَثْمَر بهدف جر المشاركين إلى الانخراط في أعمال تخريبية تأتي عملية انتقاء الشعارات وصياغتها، وطريقة ترتيبها، والوتيرة التي تجري بها. تبدأ هذه الشعارات في أجواء حماسية مُلتهبة بتكبيرات وتهليلات واستحضار الرمزية الدينية وسوق البشائر الفاقعة بقرب النصر الأكيد، وقد تتخللها خُطب عصماء في هذا السياق، ثم تنحدر طموحات المشاركين وآمالهم العريضة سريعاً بعد استفاقة واقعية تجري رويداً رويداً في أوساطهم وتصفع شطحات التوهم بتحقيق الانتصارات، والتيقن بأن هذه التكبيرات والتهليلات والخطب العصماء لم تُقدِّم أو تؤخر من الأمر شيئاً. وبحركة درامية سريعة، سيتم تصويب غضب واحتقان المتظاهرين بعد نكوصهم نفسياً من حالة الحماس والانتشاء الشديدين إلى مشاعر مزرية من الإحباط وقلة الحيلة تجاه الحكومات العربية، وبدرجة أقل الإسلامية، ولكن ليس كل الحكومات العربية والإسلامية، بل حكومات سيتم انتقاؤها بعناية، لتحميلها كل ما حدث ويحدث. ساعتها لن يجد المتظاهر في هذا البلد المُستهدف من وسيلة أمامه سوى الانفجار عنفاً، وتحطيم كل ما يجده أمامه، وبشكلٍ همجيٍّ فجٍ.

لقد أشارت الكثير من الدراسات التي اهتمت بتحليل ظاهرة العنف لدى الجماعات الإسلامية إلى توليفة منوّعة من الشروط والبواعث والمُحرِّضات التي تُسهِّل لهذه الجماعات عملية استقطاب أنصارها، وإقناعهم بضرورة تبني الفعل العنيف تجاه كل من لم يشاطرهم الرأي والتوجُه، ومن المهم هنا الاستفادة من هذه التحليلات لقراءة مشهد التظاهرات المتفجر بالعنف في شموليته وعمق محركاته ودوافعه وليس الوقوف فقط عند حدوده الشكلية المباشرة. ووفقاً لهذه الدراسات، فإن الجيل الشاب الذي يغلب عليه الحماس والاندفاع وسرعة الانفعال وعدم تقدير الموقف هو أكثر الفئات العمرية التي تُشكِّل صيداً ثميناً لهذه الجماعات، خصوصاً أولئك الذين مروا بتجارب اجتماعية أو نفسية سيئة. تقوم هذه الجماعات بتجهيز التبريرات الشرعية والاجتماعية والسياسية حتى يتم تحضيرهم بشكلٍ جيدٍ في مشاريعها التدميرية عن طريق التعسف على النصوص الدينية وليّ عنقها، وإشاعة نظرية المؤامرات، وتقديم قراءة متعسفة للواقع مستفيدة من معمعة التعقيدات والتحولات، والاختلالات في السياسات الدولية، والضبابية في مواقف الدول الكبرى.

ومع وجاهة وأهمية كل هذه الأسباب والمُحرِّضات مجتمعةً في فهم التحول السريع الذي يطرأ على ممارسات المشاركين في مظاهرات يُفترض أن تكون أكثر حرصاً والتزاما بالتعبير والممارسة السلميين، سيبقى هناك دون شك سببٌ مهمٌ. إن إفراط إسرائيل في استخدام العنف ضد المدنيين الفلسطينيين، وبصورة مرعبة للغاية، وبما يتجاوز سياق وشروط معركتها مع حركة حماس، يُساهم كثيراً في تأجيج مشاعر الغضب في الأوساط العربية، والفئة الشابة تحديداً. فالشعور بالظلم والإحباط وقلة الحيلة، يحوّل الكثير من هؤلاء الشباب إلى قنابل موقوتة في بلدانهم أو حتى خارجها، الأمر الذي تستفيد منه الجماعات المتطرفة كثيراً!