د. نعيمة عبدالجواد تكتب لـ(اليوم الثامن):

إعادة تأهيل البشر قبل التدمير

على مدار العصور، وجد الإنسان نفسه رهن التغييرات التي تطرأ حوله دون أن يكون ضالعًا بها، لكنه كان دومًا مجبرًا على التكيُّف مع ظروف فرضت عليه، وإلَّا لسوف يكون بقاءه مهددًا بالفناء. 
ومن أصعب المواقف التي أصبح فيها مصير الفرد العادي على المحكّ هي حقب الثورات الصناعية؛ ففي كل مرَّة تطرد الآلة، بشكل ممنهج، الإنسان من وظائف ألفها وأتقنها؛ ولهذا، كان يتعيَّن عليه في كل مرَّة أن يستخدم ذكائه الفطري لإيجاد دورًا جديدًا بعيدًا عن سيطرة الآله؛ حتى لا يلاقي نفس مصير الديناصورات في العصور القديمة، التي فقدت هيمنتها تدريجيًا على الأرض والبشر، بسبب الذكاء البشري المتسارع، مما أجبرها على الانزواء بعيدًا عن أنظار البشر الأكثر منها ذكاءًا، وأخيرًا، انقرضت لأنها لم تستطع أن تساير مستجدَّات العصر.
وفيما يبدو أن ما اقترفه البشر قديمًا من حملات إبادة جماعية شرسة، وإن كانت غير مقصودة، ضد الوحوش والحياة البرية، لسوف يكون المصير الذي سوف يعانون منه في إطار ما يُطلق عليه حاليًا ب"الثورة الصناعية الرابعة"، التي تم تعريفها بأنها أولًا وأخيرًا ثورة الذكاء الاصطناعي وقفزاته الغير مسبوقة ضد البشر وكذلك الآلة نفسها؛ فالذكاء الاصطناعي يتطوَّر بسرعة مذهلة قد يعجز حتى بسببها مطوريه أن يدركوا إمكاناته المذهلة التي تماري ما خُطط لها؛ ويرجع السبب في ذلك شكّ مطوريه ولو بنسبة ضئيلة في إمكانية تبوُّأ الذكاء الاصطناعي لأدورار شغلها البشر لحقب طويلة بسبب تمتُّع الإنسان بذكاء خلَّاق، وقدرة على مجابهة الظروف الطارئة بأقل مخاطرة ممكنة.
لكن خلال العامين السابقين تطوَّرت الأحوال وانقلبت الأدورار بسرعة مذهلة؛ وكانت بداية الغيث مع شركة "أوبن إيه أي" Open AI  التي أعلنت عن برنامج "تشات جي بي تي" Chat GPT ذو القدرات المذهلة؛ الذي تحوَّل سريعًا من كونه مجرد آلة رد على المكالمات الهاتفية ذات قدرات محدودة، إلى وسيلة فعًالة، ذات ذكاء يفوق الذكاء البشري، استطاعت التغلغل إلى جميع مفاصل الحياة والسطو على حتى أدَّق أنواع الوظائف، مما سبب فزعًا عالميًا عارمًا من قدرات الذكاء الاصطناعي الخارقة التي جعلت الأب الروحي له، وهو العالم جيفري هينتون" Geoffrey Hinton يستقيل من منصبه وهو يخشى أن يشجبه التاريخ كشأن مخترع الديناميت "جيه روبرت أوبنهايمر" J. Robert Openheimer الذي يساعد اختراعه المذهل في الفتك بالمليارات من البشر حتى يومنا هذا. وأكَّد "جيفري هينتون" أن الذكاء الاصطناعي له القدرة على السيطرة على البشرية بأسرها وجعلها طوع أمره، إذا لم ينتبه العالم لمدى خطورته، وأهمية إتِّخاذ التدابير اللَّازمة للسيطرة على قدراته المذهلة، تمامًا كما استطاع العالم أن يسيطر على الآثار التدميرية المناوئة للديناميت.
ولعل أبرز مجال اقتحمه الذكاء الاصطناعي هو سوق العمل، والذي بسببه قد لا يجد البشر سبيلًا لكسب أرزاقهم، وبالتالي الموت جوعًا بسبب عالم لا يرحم؛ فأصحاب الأعمال يفضِّلون استخدام الآلة عن البشر بسبب رخص تكاليفها وقدراتها التي لا تجعلها تشكو من الإعياء أو المرض، أو حتى لها ميلًا للمشاكسة والاعتراض. وفي نفس الوقت، تحجم المجتمعات المتقدِّمة عن الإنجاب أو حتى الزواج بسبب عدم القدرة المالية على تكوين أسرة والإنفاق على تعليم الأطفال في حقبة تتميَّز بغلاء الأسعار وشُحّ الموارد المالية.
فلقد اقتحمت الروبوتيات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي شديد التطوُّر تقريبًا جميع ألوان الوظائف، سواء الدنيا منها أو حتى التي تتطلب مهارات وذكاء إبداعي. ومن الطريف أنها تمكَّنت من اثبات نفسها في القطاعات الخدمية واللوجستية والنقل، وذلك بسبب وجود ربوتات لها القدرة على فرز الطرود. والنقل هنا لا نعني به عمليات النقل من مكان إلى آخر داخل المصانع أو المتاجر، بل أيضًا النقل البرِّي؛ فهناك حاليًا سيارات أجرة ذاتية القيادة. ودون شكّ، فإنها تكتسب ثقة العملاء يومًا تلو الآخر؛ فهي تتمتَّع بالأمان التام والراحة المطلقة، حيث أنَّ قائد السيَّارة لا يمكن أن يضايق أو يتحرَّش بالراكب، وهو يعلم طريقه جيِّدًا. ناهيك عن ذلك، تتميَّز دائمًا السيَّارة بالنظافة والرَّائحة العطرة، مع وجود وسائط إعلامية متعددة للترفيه عن الرَّاكب طوال فترة الرحلة، وذلك حسب الرَّغبة دون فرض خيارات.
ولم يكتفي الذكاء الصناعي بالنقل البرِّي، فلقد اقتحم أيضًا مجال النقل الجوِّي بشدة، مع وجود طائرات بدون طيَّار ذاتية القيادة؛ وإن كانت تستخدم حاليًا في نطاق محدود سواء في أغراض عسكرية أو إعلامية، لكن من المنتظر قريبًا أن يتوافر منها طائرات لنقل الرُّكاب؛ حتى ولو تواجد العنصر البشري على متن المركبة الجوية، لسوف يكون دوره محدودًا. 
واقتحمت أيضًا الروبوتيات المصانع، فأصبحت الماكينة الواحدة لها القدرة على أن تتبوأ مكان أكثر من مائة عامل، وإن كان ذلك متوقعًا لحد كبير؛ حيث أن الثورة الصناعية الأولى والثانية، أو ما تعرف بالثورات الميكانيكية، كان أساسها إحلال العنصر البشري بالآلة. لكن ما هو غير متوقَّع، اقتحام ربوتيات المجال الاصطناعي المجالات التي تتطلَّب ذكاء بشري أو قدرات إبداعية خاصة. فلقد أصبحت الآلة محاسب من الطراز الأول؛ فالآلة لها القدرة على مسك الدفاتر دون اقتراف أي خطأ، وكذلك يستلزم مسكها للدفاتر كبسة زر واحدة، بدلًا من المحاسب البشري الذي قد يعمل بالأسابيع أو حتى الشهور لتنفيذ مهمة واحدة على أكمل وجه. 
وكان لاقتحام الروبوتيات مجال التسويق، وتبوأهم لوظائف مندوبي المبيعات أثرًا صادمًا على فئات عريضة من المشتغلين بهذا القطاع من كل الفئات؛ فالتسويق أصبح العصب الرئيسي لسوق العمل حاليًا والوسيلة الوحيدة لكسب رزق وفير في أقل وقت. ولم يكتفي القائمين على الذكاء الاصطناعي عند هذا الحد، فلقد أقحموا الروبوتيات في مجال تحليل الأبحاث بكافة أنواعها وخاصة العلمية والطبية منها. وفي المستقبل المنظور، لسوف تحلّ الروبوتيات محل الأطباء بشكل واسع؛ فهي حاليًا تبرع في مجال الجراحة واستئصال الأورام، لكن القادم ينبئ بالمزيد.
وأمَّا مجالات الفنّ والإبدع، فلم تسلم من الأتمتة، فالذكاء الاصطناعي يرسم لوحات، ويصمم إعلانات، ويكتب محتوى إعلاني أو صحفي جاذب ومحترف، وبكبسة زرّ واحدة؛ ولو كان ذلك متاحًا حاليًا على نطاق واسع ومجاني في كثير من الأحيان، فما بالك بما سوف يحدث في المستقبل. وكان إضراب جميع صنَّاع السينما والدراما في هوليوود أكبر دليل على هذا، فمع الذكاء الاصطناعي واسع ومتعدد المجالات لسوف يتلاشى دور الإنسان، وبالتالي وجوده.
ولتأخير ذلك، نادى العقلاء في اجتماع قمّة دافوس DAVOS الاقتصادية لعام 2024 بعمل "ثورة إعادة إحلال مهارات" على غرار ما حدث إبَّان الثورة الصناعية الأولى والثانية؛ وذلك حتى يجد الإنسان دورًا له وسط ذلك العالم المتطِّور والغريب الذي قد يحبس الإنسان في زاوية معزولة لا يمكن الفرار منها إلَّا بالموت والفناء.