عبد الرحمن النقبي يكتب:
عقل الدولة في زمن الفوضى: كيف تُدار مقاربة الإمارات في اليمن؟
في لحظات الاضطراب الإقليمي، تتكاثر القراءات السريعة التي تبحث عن عناوين مثيرة أكثر مما تبحث عن فهم هادئ. غير أن السياسة، حين تُدار على مستوى الدول، لا تُقاس بإيقاع منصات التواصل الاجتماعي، ولا تُختزل في سجال عابر، بل تُبنى عبر رؤية طويلة النفس، تُوازن بين المبادئ والوقائع، وتُقدّم الاستقرار بوصفه شرطًا لأي أفق ممكن. من هذا المنظور الأوسع، يمكن قراءة المقاربة التي اعتمدتها دولة الإمارات في التعامل مع الملفات الشائكة، وفي مقدمتها ملف اليمن.
النهج الإماراتي لا ينطلق من وعد بحلول مثالية، ولا من رغبة في تسجيل نقاط خطابية، بل من إدراك لطبيعة الأزمات المركّبة وحدود الممكن فيها. في بيئات أنهكتها الصراعات وتآكلت فيها مؤسسات الدولة، يصبح السؤال المركزي هو كيف يمكن منع الانهيار الشامل وتهيئة أرضية تسمح بتدرّج الحلول. هذه ليست مقاربة سهلة ولا شعبية، لكنها أقرب إلى منطق الدولة التي ترى أن تقليل الفوضى خطوة أولى لا غنى عنها قبل أي مسار سياسي مستدام.
في الحالة اليمنية، جاء التعاطي الإماراتي ضمن إطار واقعي يربط بين الاستقرار العام وقدرة المجتمع على استعادة حد أدنى من التنظيم، وذلك ترتيبًا للأولويات بما يسمح للسياسة أن تصبح قابلة للعمل. هكذا يُفهم التركيز على بناء مساحات أكثر استقرارًا، وعلى دعم الجهود التي تحد من تمدد الجماعات المتطرفة، وعلى العمل مع الفاعلين المحليين ضمن رؤية تهدف إلى إعادة ضبط المشهد، لا إعادة رسمه دفعة واحدة.
هذا النهج لم يكن يومًا معزولًا عن إطار التحالف، بل هو جزء من منظومة أوسع تقودها المملكة العربية السعودية، التي تحمل العبء الأكبر سياسيًا ودبلوماسيًا في هذا الملف المعقد. قيادة المملكة اضطلعت بدور محوري في إدارة المسار العام للأزمة اليمنية، وفي السعي إلى تسوية سياسية شاملة تحفظ لليمن وحدته وتضع حدًا لمعاناته الطويلة. ضمن هذا السياق، تتكامل الأدوار ولا تتعارض، ويصبح اختلاف الأدوات تعبيرًا عن توزيع واعٍ للمسؤوليات، لا عن تباين في الغايات.
ما يجمع أبوظبي والرياض في هذا الملف أكبر من التفاصيل التكتيكية، وأعمق من أن يُقاس بنبرة تعليق أو اجتهاد إعلامي. وحدة الهدف، المتمثل في دعم استقرار اليمن وأمن المنطقة، هي العامل المشترك والثابت.
ما يميز التجربة الإماراتية في هذا السياق هو قدرتها على تعديل أدواتها من دون التخلي عن مسؤولياتها، وعلى الانتقال بين الحضور المباشر والعمل عبر الشراكات حين تقتضي المصلحة ذلك. هذا التحول لا يُقرأ كتناقض، بل كعلامة نضج سياسي يدرك أن الاستمرار ليس قيمة في ذاته، وأن الحكمة أحيانًا تكمن في إعادة التموضع بما يحفظ التأثير ويقلل الكلفة.
في المقابل، يظل الدور السعودي هو الإطار الجامع الذي يمنح هذه الجهود معناها الاستراتيجي. فالمملكة لا تدير الملف اليمني باعتباره ساحة منفصلة، بل جزءًا من منظومة أمن إقليمي أوسع، تسعى إلى تحصينها عبر مزيج من العمل السياسي، والدبلوماسي، والأمني. هذا الدور القيادي يوفّر المظلّة التي تعمل تحتها المقاربات المختلفة، ويحول دون انزلاقها إلى مسارات متعارضة.
اليمن، في نهاية المطاف، ليس ساحة اختبار للشعارات، بل اختبار لقدرة الدول على التفكير الهادئ في زمن الفوضى. المقاربات التي تُبنى على قراءة واقعية للمشهد، وعلى تنسيق وثيق بين الشركاء، قد لا تُرضي دعاة الاختزال، لكنها وحدها القادرة على الصمود. وفي هذا الإطار، يبدو التحالف الإماراتي السعودي نموذجًا لتعاون يدرك أن الطريق إلى الاستقرار طويل، وأن إدارته تتطلب صبرًا، ووضوح هدف، وقدرة على العمل بعيدًا عن الضجيج.
التجارب تُظهر أن الدول التي تشتغل بعقل الدولة لا تنجرف إلى سجالات عابرة، بل تترك للأفعال المتراكمة أن ترسم صورتها. وفي ملف معقد بحجم اليمن، قد يكون هذا النهج الهادئ هو الرسالة الأوضح، والدليل الأصدق على شراكة تعرف ما تريد، وتعرف كيف تعمل، حتى حين يعلو الضجيج من حولها.


