د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب لـ(اليوم الثامن):

دروسٌ وعِبَرٌ من ذكريات النكسة الأليمة وأيام الطوفان المجيدة

يستعيد الفلسطينيون بالكثير من الحزن والأسى والمرارة والألم نكسة العام 1967، التي منيت فيها الجيوش العربية بهزيمةٍ منكرةٍ، وقضي عليها بصورةٍ مهينة، وصمتت أبواقها المدوية مخزيةً، وانكفأ قادتها الملهمون أذلةً، وتشتت جنودها قتلى وأسرى وفارين بصورةٍ محزنةٍ، تاركين خلفهم جرحى يئنون ومصابين يستغيثون، إذ انهارت الجيوش في ساعاتٍ معدودة وكأنها جيوشٌ من ورق، وألويةٌ وكتائبٌ وفرقٌ كأنها صور، أو هياكل من طينٍ وقشٍ، وخيالات مآتةٍ من خشبٍ وقماشٍ، لا تخيف معتدياً ولا تفزع طيراً، فسقطت راياتها وجرجرت أذيالها خائبةً خاسرةً أمام جيش الكيان الذي ما زال يتأهل ويتطور، ولا يملك القوة الكافية ولا الردع المهاب، ولا يحظى بالدعم الكافي والإسناد المطلوب.

يكاد الفلسطينيون لا يصدقون أبداً ما جرى لهم وما لحق بهم جراء هذه الحرب، التي قضت على أحلامهم الكبيرة باستعادة الأرض والعودة، وقتلت الروح المعنوية العالية التي سكنتهم وعاشوا بها، وظنوا أنهم بها أقوى وسينتصرون، وبها أقدر وسيعودون، إلا أنها كانت صادمة لهم وكاوية لوعيهم، فتسببت في تعميق شتاتهم وتجديد لجوئهم، ومزقتهم أكثر وبعثرتهم في منافي الأرض ونثرتهم في أرجائها الأربعة.

وجرعتهم المر والهوان وألحقت بهم العار بضياع الشطر الثاني من أرضهم، واحتلال ما بقي من قدسهم، وتدنيس أقصاهم وانتهاك حرمة مقدساتهم، وزاد في الحرقة والأسى، وعمق الهزيمة والانكسار، ضياع أراضٍ عربيةٍ أخرى مصرية وسورية وأردنية ولبنانية، كان المرجو منها أن تكون جبهات مقاومة، وساحات إسنادٍ ومشاغلة، إلا أنها سقطت بسرعة، وعجزت الجيوش عن حمايتها والدفاع عنها، وما زالت عاجزة عن استرجاعها وتحريرها.

يستغرب الفلسطينيون ومعهم كل الشعوب العربية، كيف انهارت جيوشهم ولم تصمد، ولم تستطع القتال ولم تتمكن من المواجهة، وهي التي بُذلَ فيها الكثير لتقوى، ودُفع لأنظمتها الكثير لتتهيأ وتتجهز، وتأملت فيها شعوبها كثيراً لتنتصر، والتحق بها خيرة أبناء أمتنا لينالوا سبق القتال وشرف التحرير، وهم الذين آمنوا بشعارات القوة وصدقوا دعاة التحرير، فجادوا بأرواحهم والمهج، وضحوا بالمال والولد، ولكنهم صدموا أن العدو الأضعف منهم انتصر عليهم، والأقل عدداً منهم تغلب عليهم، والمحاصر بين البحر وأعدائه في أرضٍ صغيرةٍ ضيقةٍ محدودة، اتسعت حدوده وامتد نفوذه، وسيطر على أضعاف المساحة التي أنشأ عليها كيانه.

يزداد استغراب الشعوب العربية التي صدق آباؤها وضحى أجدادها في ظل طوفان الأقصى المبارك، وهم يرون أن ثلةً صغيرةً من أبناء أمتهم، في غزة ولبنان، وفي يمن العرب البعيد، تمكنت وحدها، وهي المحاصرة المضيق عليها، الفقيرة المعدمة، القليلة العدد والمحدودة السلاح، من مواجهة العدو وهو في أعتى حالاته، وأقوى مراحله، وأكثرها تفوقاً واستعلاءً، ودعماً وإسناداً.

إلا أنها استطاعت في حربٍ دمويةٍ طويلةٍ دخلت شهرها التاسع، أن تصمد أمام آلة الحرب الوحشية، وأن تثبت أمام المؤامرة الدولية، والتحالف الأمريكي الأوروبي الفاضح مع الكيان الصهيوني، ونجحت إلى حدٍ كبيرٍ في إفشال مخططاته وإحباط مؤامراته، وكبدته خسائر كبيرة في أرواح جنوده وضباطه، وعطلت حياته وضيقت سبل عيشه، وتسببت في انهيار اقتصاده وتصدع كيانه وتفكك جبهته الداخلية.

يتساءل العرب والفلسطينيون معاً، كيف استطاعت مجموعاتٌ صغيرة من المقاومين، لا يزيد عددهم عن الألفي مقاوم، يحملون أسلحةً فرديةً خفيفة، ولا يملكون غطاءً جوياً يحميهم، ولا مدفعية ميدان تمهد طريقهم، ولا دبابات تسهل مهمتهم، ولا قوى أخرى تساندهم، وهم ليسوا جيشاً ولا ألوية نظامية، اجتياح الحدود واجتياز السياج وتقطيع الأسلاك الشائكة، واقتحام البلدات والمستوطنات، ومهاجمة المواقع والثكنات، والوصول إلى المهاجع والملاجئ، وقتل المئات من الجنود والضباط الإسرائيليين، واقتياد أعدادٍ كبيرة منهم أسرى إلى داخل قطاع غزة، والسيطرة خلال ساعتين لا أكثر على ضعفي مساحة قطاع غزة، وتطويع فرقة غزة العسكرية الإسرائيلية الأقوى في المنطقة الجنوبية، وأسر قادتها وسوقهم مكبلين إلى مضاجع الموت أو إلى مقراتٍ سريةٍ في القطاع، أعيت العدو وحلفاءه عن اكتشافها وتحديد مكانها واستنقاذ أسراهم منها.

ليست المشكلة في أمتنا العربية وشعوبها، فهي صادقةٌ وفيةٌ، مخلصةٌ قويةٌ، مؤمنةٌ واثقةٌ، ثابتةٌ صامدة، لا تخشى العدو ولا تهابه، ولا تتردد في قتاله، ولا تجبن عن مواجهته، ولا تبخل في تقديم الأرواح والتضحية بالأموال والممتلكات في سبيل تحرير الأوطان وتطهير المقدسات، وهي تؤمن أنها قادرة على هزيمة العدو وتحقيق النصر، وتعتقد يقيناً أنها ستتغلب عليه وستفكك كيانه، وستشطب اسمه من الخارطة السياسية وستزيل كيانه من الجغرافيا الدولية، ولن يكون له وجودٌ بيننا ولا بقاء في أرضنا.

نحن لسنا ضعافاً فنُقتل، ولا خرافاً فنُذبح، ولا أذلاء فنخضع، أو جبناء فنسكت، بل نحن شعوبٌ مقاتلةٌ، تنتمي إلى أمةٍ مقاومة، عزيزةٍ أبيةٍ رائدةٍ راشدة، وهي أمةٌ أصيلةٌ نبيلةٌ، وهي أصل السامية وشرف الإنسانية، أمةٌ عريقةٌ ممتدة، تضرب جذورها في أعماق التاريخ، وينبت رجالها من قلب الأرض أطهاراً، ويخرجون لمواجهة العدو من جوفها أبطالاً، ويكبرون فيها كالجبال ثباتاً ورسوخاً، ويبقون فيها وقوفاً كالأشجار طولاً وشموخاً، وهم على وعدٍ جديدٍ وعهدٍ حديدٍ، ألا تتكرر النكسة، وألا تبقى النكبة، وأن يعلو طوفان الأقصى ويتسع، وفي ربوع الأرض يمتد، وأن يكون هو بداية النصر وتباشير العودة، وطوفان الخلاص وطلائع التحرير.